الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            العروج الحضاري بين مالك بن نبي وفتح الله جولن

            الأستاذ الدكتور / فؤاد عبد الرحمن البنا

            1- (الانفعال) زاد (الفاعلية):

            عرف جولن بآلاف الخطب والمواعظ، وبقدراته البلاغية الرفيعة التي تجعله ضمن الصفوة المتقدمة التي تكتب بالتركية في هذا العصر، مع إخلاص [ ص: 141 ] بلا حدود يعطي لكلامه نورا فوق نور، ويمنحه قدرة على التحكم بقلوب سامعيه، واقتيادهم من عواطفهم إلى ساحات الإيمان الذي يترجمه بقدراته الفكرية والتربوية إلى سلوكيات تخدم الخلق وتعمر الحياة.

            ومع أن أكثر المجتمعات الإسلامية تنتمي إلى الشرق، حيث اللغات ذات حضور مؤثر، وفي طليعة هذه المجتمعات المجتمع العربي الذي يمتلك أكثر لغات الأرض فصاحة وثراء، إلا أن التخلف قد سرى إلى اللغات وإلى الخطاب الإسلامي المعاصر في هذه المجتمعات.

            لقد لاحظ جولن أن العالم الإسلامي افتقد القدرة على الكلام المؤثر [1] . وهذا سبب رئيسي في خسارته لكثير من القضايا، حيث أصبح محاميا فاشلا لقضية عادلة!

            وحول عاطفيته اشتهر جولن ببكائياته أثناء حديثه عن آلام وطنه وأوجاع دينه، ومعضلات وجروح أمته. ولم يكتف بالبكاء بل انتقل إلى الإبكاء، وهو صاحب العبارة التي تقول: "بعض قطرات الدموع قد تكون وسيلة لفتح قلوب عديدة" [2] . وقد جرف بدموعه الرقراقة الران من قلوب آلاف العصاة والقساة واقتادهم إلى عوالم الطاعة والشفافية والتضحية.

            ويقول في نفس الموضوع: "إن أرباب الخوف يتألمون ويتوجعون، وأحيانا أخرى تنهمر منهم الدموع سيلا مرات ومرات في اليوم، ولاسيما [ ص: 142 ] عند انفرادهم، يطفئون بدموعـهم نار "البعد"، ويمضون إلى إطفاء نار جهنم وهي أقصى الأبعاد عن الله"، ويعتقد أن "الدموع أعظم إكسير لإطفاء نار جهنم" [3] .

            ورغم أن جولن (ضحاك) بالاسم، إلا أنه (بكاء) بالفعل، ورغم بصمـاته الـكبرى في صناعة (الفرحـة) لآلاف غير معدودة من الناس في العالم كله، إلا أنه كثير (الحزن)، ورغم فتحه لأبواب (الأمل) إلا أنه شديد (الألم).

            ولعـاطفيته العجيبة فإنه يفلسف الحزن ويستعذبه، ويبين ثماره الخارقة في تخلية الإنسان من نواقصه، وتطهيره من ذنوبه وأدرانه، ويبرز دوره الكبير في دفع الفرد نحو سلالم الكمال ومعارج الجنة [4] .

            إن بكاء جولن ليس بكاء على الأطلال، يؤدي إلى تنفيس الطاقة، وتفريغ الشحنة ثم يبقى الحال على ما هو عليه، إن لم يتأخر أكثر، بل هو البكاء الفاعل، حيث تستحيل دموعه إلى قطرات غيث تنبت الزرع وتروي الضرع، وتصبح هذه الدمـوع بفضل بوصلة العرفان وبركة الإخلاص أنهارا تسقي بذرة الخـير في بساتين القلوب وحدائق العقول، فتطيب الأيدي والأبصار. [ ص: 143 ]

            وبعبقرية جولن وربانيته، وبمباركة الله وتفاني تلاميذه وتضحيات عاشقيه، أنبتت هذه البذرة سبع سنابل:

            - الأولى: سنبلة المدن السكنية الخيرية للطلاب.

            - الثانية: سنبلة المدارس التربوية والجامعات العلمية الراقية.

            - الثالثة: سنبلة الجمعيات الخيرية المباركة.

            - الرابعة: سنبلة الصحف والمجلات الثقافية والقنوات الفضائية.

            - الخامسة: سنبلة المنتديات الحوارية والمؤسسات البحثية.

            - السادسة: سنبلة المشافي والمصحات النموذجية.

            - السابعة: سنبلة المؤسسات الاقتصادية العملاقة كالبنوك والشركات التجارية.

            وقد تجاوزت حبوب بعض السنابل المائة حبة إلى المئات، كالمدارس، والله يضاعف لمن يشاء!

            ومن المؤكد أن أهـم محطـة للتزود من هذا الانفعال الخلاق، هي محطة الشعـائر التعبدية، كالصـلوات والصيام والحج، حيث الشحن المبارك، والذي يتحول بالعلم والإخلاص واغتنام المواسم، ومداومة التزكية ومعـاودة المراقبة والمحاسبة، إلى طاقة هادرة، تكتسب فاعلية كبيرة في العمارة والخدمة.

            وعن مواسم العبادات هذه يقول: "يتخلص بعضنا في مثل هذه المواسم من الحدود الضيقة للمنطق فيدع نفسه في يد الفرح والانفعال والبكاء، [ ص: 144 ] وكأنه قد دعي لعالم قدسي.. ويتخيل بعضنا بأنه قد تهيأ لسفر بين النجوم، وأنه يسابق الشمس والقمر، ويحسب أن أنفاسه تختلط بأنفاس الملائكة إلى درجة أن قلوبنا تلين إلى أقصى حد، وتدمع أعيننا، ونشعر بأن العديد من عقدنا التي نحس بوجودها في أنفسنا قد لانت وانحلت. أما دموعنا المنسكبة فتبدو وكأنها تطهر جميع العقد الموجودة في أعماق أرواحنا، وتهب الراحة والاطمئنان لضمائرنا" [5] .

            واهتم بغرس الحساسية الفكرية والروحية، وندد بالتبلد والغفلة واللامبالاة، وشن عليها الغارة بأسلوبه الأدبي الرائع، حتى أنه كتب ذات مـرة: "يقـولون: فلان حسـاس إلى درجة أنه يتأثر حتى من رطوبة الجو، أفدي مثل هذا الشخص بنفسي.. إذ ماذا نقول لمن لا يبتل حتى وهو تحت المطر؟" [6] .

            وهناك قصص عجيبة حـول حسـاسيته وشفافيته المرهفة سمعناها من تلاميـذه المقربين جدا، ولا تسمح طبيعة هذا البحث ومحدوديته بإيرادها، لكنها تزيدنا يقينا بأن هذا الرجل عملاق الفكر والقلب والروح في هذه الآونة! [ ص: 145 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية