1- الإقلاع الهادئ من (الكائن) إلى (ما يجب أن يكون):
يدرك جولن تماما الواقع التركي خاصة والإسلامي عامة، ويعرف حجم ونوع العوائق والمصاعب، لكن ذلك لم يدفعه للاستسلام ورفع الراية البيضاء، وفي ذات الوقت لم تلغ عواطفه الجياشة عقله، ولم يدفعه تطلعه إلى المثال الأكثر بياضا لحرق المراحل من أجل تجاوز الواقع الأكثر قتامة وسوادا. [ ص: 154 ]
ولكنه - كما أسلفنا - وضع الرؤية ورسم الخطط التي تضع كل عوامل القوة والضعف بالحسبان، وتحرك بخطى وئيدة وثابتة، اتسمت بشدة الهدوء والحذر والتلفت إلى كل الاتجاهات وناحية سائر الجهات.
إنه ينتقد الذين يثيرون الضوضاء، ويشبههم بالدجاجة التي تثير الضوضاء كلما وضعت بيضة واحدة، "بينما نرى أن كل نشاط يجب أن يجري في سكون وصبر يحاكي سكون وصبر المرجان الذي يتكاثر بهدوء، ودون ضوضاء في أكثر الأماكن هدوءا وبعدا عن الأنظار" [1] .
ويبدو أن هذا الهدوء والإسرار يقوم عند جولن على حجتين:
الأولى: دينية روحية:
فالدين الإسلامي دين الحب والرحمة والتلطف بالناس جميعا، ويشتد هذا الأمر في هذا الزمان، كما يقول: "إن إنساننا في الوقت الحاضر أحوج ما يكون إلى المحبة والشفقة والكلام الطيب والصوت الأنوس الحنون، بدلا عن القسوة والعنف والضرب والقتل. فالمنتظر منا اليوم خفض جناح الرحمة والشفقة على الجميع حتى نسمع أناتهم في قلوبنا، ونستشعر قلقهم واضطرابهم في نفوسنا، فنشاركهم في الأفراح والأتراح" [2] .
ويرى أن أجمل هدية يقدمها المسلم باسم الإنسانية هو تحقيقه لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "نعم، إن أداء هذه الوظيفة بإحسان ولطف لهو أعظم هدية وأثمنها" [3] . [ ص: 155 ]
والتعامل اللطيف مع المحبوب بالتأكيد أنه يكون هادئا، وهذا من جوهر الإسـلام، وليس فقـط من مقتضيـات العصر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمارس العمل الهادئ في مكة المكرمة، حتى أن جولن يسمي ذلك الهدوء بـ (الفعالية الصامتة) [4] .
الأخرى: عقلية واقعية:
وهي طبيعة العداوات والتآمرات، وحجم الأعداء والخصوم، حيث لابد من التلطف والحذر والتخفي والإسرار والهمس، وبالذات في مرحلة ضعف الدعوة.
وفي تفسير جولن لآية النجوى الجائزة: ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) (النساء:114)، ذهب إلى أن الدعوة عندما تكون صعبة بسبب بعض العوامل السلبية، كما في هذا الزمان، "فإن هذه الدعوة وهذا التبليغ سيتم سرا وهمسا، أي على قاعدة (وليتلطف)" [5] .
والإسلام دين الواقعية حتى في الأوضاع الطبيعية لأنه يعترف بالمستويات المختلفة والفروق الفردية بين الناس، إذ يعمل من أجل إيصال كل فرد إلى كماله الممكن، ومن ثم تصبح خصيصة الواقعية في الإسلام [ ص: 156 ] لصالح جميع الناس بمختلف مستوياتهم الإيمانية، حيث إن هذه الواقعية تجعله قابلا للتنفيذ في كل مجال، ومالكا لوسائل تحقيقه، بجانب تلبيته لميول ورغبات وحاجات جميع الناس الطبيعية والمعقولة [6] .
ومن ثم تكون إحدى مفردات واقعية الإسلام اعترافه باختلاف الناس، فهم من تراب الأرض، والتراب يحوي سائر المعادن، النفيسة والرديئة، ولهذا فإن الإسلام لا يكتفي بالاعتراف بهذه الحقيقة، لكنه يطالب الدعاة والصالحين بالتعامل مع الناس بالحكمة على أساس هذه المعرفة [7] .
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو التجسيد المثالي لقيم هذا الدين في سائر المجالات، فقد تجلت في سيرته صلى الله عليه وسلم هذه الخصيصة، ومن مفرداتها معرفة الكفايات، وتوظيفها في مجالاتها المناسبة [8] .
وتشتد الحاجة لمعرفة هذه الخصيصة عندما يتعلق الأمر بالقائد، فهو مطالب بمعرفة مواهب وقدرات وكفايات أفراده، وتنميتها، وتوظيفها في سد الثغرات والثغور المناسبة [9] .
ومع أن جولن يراعي الواقعية في تربيته لتلاميذه، لكنه لا يغادر المثالية قيد أنملة، ولذلك -كما قال لي بعض تلاميذه- فإنه يدعو خلص أتباعه لأن يتطلعوا في مضمار الدعوة والحركة والتبليغ إلى العالم كله، ثم إلى السماء. [ ص: 157 ]
وعندما يرسم هذه الآمال العريضة لتلاميذه، ويدعوهم إلى الارتفاع والعلو بدون سقف إلا سقف السماء، فإنه لا ينطلق من عواطف جياشة خالية من الفهم والفكر، بل ينطلق من معرفته بسنن الله، وبحاجة البشر إلى هذا الدين، وثقته المطلقة بالقدرات الخارقة للإسلام، وبفاعلية أبنائه عندما يحسنون فهمه وتمثله.
ولذلك لم يفتأ يحدث أصحابه وتلاميذه عن دور القرآن في هذا الإقلاع المرتقب، ولاسيما أن شلالات كافة العلوم تصب اليوم في بحر القرآن، ولذلك فإنه لا يرى أي مبالغة في "النظر إلى المستقبل بأنه سيكون عهـد القرآن، ذلك لأنه الكلام الذي يرى الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد" [10] .
والقرآن بقدراته المطلقة في إصلاح الأبدان والقلوب والأرواح والعقول والضمائر، هو الذي يهيء المسلمين ليكونوا (إنسان المستقبل) بعد أن أراهم ذرى المثاليات وشوامخ الرفعة والسمو [11] .
إنه دائب التأكيد على أن القرآن كتاب المستقبل، وأن المستقبل لهذا الدين "نعم، إن العصور الآتية هي عصور القرآن، والسلطنة القابلة هي سلطنة (مفخرة الإنسانية) صلى الله عليه وسلم . الآذان تستمع إلى رسالته، والمشاعل التي [ ص: 158 ] تبث النور في الدرب هي مشاعله. نعم، الأمر الفيصل الآن، هو لهذا الموحد الخالص الذي يرجع كل شيء إلى التوحيد الخالص" [12] .
مرة أخرى، هو على يقين كامل بأن المستقبل للإسلام، لكنه ليس إيمانا عاطفيا، بل إيمانا برهانيا قائما على الأسباب والسنن، وقائما بها حيث يعد العدة لحدوثه، وذلك بضبط الواقع وتسخيره لهندسة المستقبل.