3- الموازنة بين طاعة الحق وخدمة الخلق:
يتضح بجلاء لقارئ كتب جولن أنه - بذات الميزان الحساس - شديد الموازنة بين حقوق الله - وهي العبادات المحضة التي بين العبد وربه - وبين حقوق الإنسان التي هي المعاملات والأخلاق. [ ص: 176 ]
ففي تحليله للتبليغ الواجب أظهر أن من سماته الجمع بين الحق والخـلق، مع حثه على ضرورة العمل للإصلاح وإيصال الخدمة والنفع إلى الخلق [1] .
ولفت الأنظار إلى أن "توقير الإنسان واحترامه من موجبات الإنسانية ومن ضروراتها، وحب الإنسان من شروط القرب من الله تعالى ومن الخلق. والذين يستهينون بالناس بتصرفاتهم أو بأقوالهم يفشون في الحقيقة مستواهم الخلقي. كما يفشي الذين يحقدون على الإنسان ويكرهونه ويعادونه نوعية ضميرهم ووجدانهم" [2] .
وحـتى في نظرته إلى ما يفترض أنها حقوق خاصة بالله فإنه لا يفتأ يذكر بدورها في تنمية حقوق الإنسان، كالصلاة فهي رحلة إلى السماء، لكن ثمارها تعود على الأرض [3] ، والمساجد التي تقام فيها الصلوات، هي أماكن لتدارس دين الله الذي ينظم حياة المؤمنين، وتمارس فيه الشورى لأجل هذا الغرض [4] .
وفي حديثه عن الحزن وتعداده لأنواعه، أورد حزنا آخر و"هو أن إحدى قدمي المحزون في عالم الناسوت والأخرى في عالم اللاهوت، فيسعى [ ص: 177 ] بقلب يقدر كلا من العالمين حق القدر فيوفي حق الموازنة بينهما معا مراعيا التمكين" [5] .
ولما كانت "حقوق الله مبنية على المسامحة وحقوق الإنسان مبنية على المشاحة" - كما في القواعد الفقهية - فقد أورد جولن عددا من الصور التي تثبت تقديم حقوق الإنسان على حق الله في بعض المواضع، مثل:
- خدمة الخلق أفضل من نوافل العبادة، ولذلك دعا تلاميذه في مطلع العقد الأخير من القرن الفائت، والذين كانوا يكررون الحج والعمرة،للذهاب إلى جمهوريات آسيا الوسطى للاعتمار هناك، بإغاثة أخوة الدين والدم [6] .
- العالم أفضل من العابد، مراعاة لهذا البعد أو انطلاقا منه [7] .
- تقديم العلم والتعلم على التعبد بالنوافل [8] .
- ومن ذلك إيراده لتقديم النبي صلى الله عليه وسلم حقوق الطفل عندما يبكي على تطويل الصلاة [9] . [ ص: 178 ]
- وذهب إلى أن لجم فوران وهيجان النفوس وضبطها ومنعها من الولوج إلى الآثام، قد يؤدي بصاحبه في لحظة واحدة للحصول على الفيوضات التي لا يحصل عليها شخـص قضى سنـوات من عمره في تكية أو شخص يصلي كل يوم مئات الركعات [10] .
- ولدور الشهداء في خدمة الخلق بجهادهم وموتهم، فإن الله يؤمنهم من عذاب القبر؛ "لأن هذا العذاب يخص الأموات. نعم، إن عذاب القبر لأموات الروح وأناسي الجسد الذين لم يصبغوا حياتهم بالدين"، ولهذا فإن رباط ليلة واحدة في سبيل الله يوازي صيام ألف يوم وقيام ألف ليلة من حيث الثواب [11] .
وهكذا، فإن ما يرتبط بحقوق الحق عبادة لازمة، وما يرتبط بحقوق الناس عبادة متعدية، وأجر العبادة المتعدية أكبر وأوفر وأبقى، ولهذا ركز عليها جولن في موازناته.