الفصل الأول
الأخلاق: أصولها وتمثلها في الرسول صلى الله عليه وسلم
لعل مما يحسن قبل الحديث عن التعامل الأخلاقي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع من حوله، التعرف على طبيعة الخلق وأسسه، وكيف يكتسب، والوسائل التي تعين على التحلي به، فالأخلاق في اللغة جمع خلق، والخلق اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلقه الله عليها [1] ، ويمكن القول: إنها ما يصدر عن الإنسان من أفعال من غير فكر ولا روية، باعتبارها جزءا من شخصيته ومكونا أساسا من طبيعته التي خلقه الله عز وجل عليها، أو اكتسبها الإنسان بمجاهدة وتعلم ودربة حتى يصير هيئة للإنسان وسمتا عاما له، وإن خبت حينا لسبب ما، أو زادت في الظهور وعرف الإنسان بها لأسباب أخرى كذلك. ومحصلة هذه الأخلاق هي السلوك، التي يقوم بها الإنسان، والأفعال التي يمارسها في مختلف المواقف التي يمر بها في حياته.
وللأخلاق التي يتخلق بها الإنسان صور عديدة جدا، فمنها الحسن المحمود، ومنها البغيض المذموم، "فالأخـلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودة ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال أن تكون مع غيرك [ ص: 39 ] على نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك، والمذموم منها ضد ذلك" [2] .
ولهذه الصور من الأخلاق، بنوعيها الحسن المحمود والبغيض المذموم، أصول تنطلق منها، وقد أجمـل ابن القيم النوع الحسـن المحمود بقوله: "إن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل" [3] . فمن كل خلق من هذه الأخلاق الأربعة تتولد أخلاق أخرى تابعة له لا تنفك عنه في الغالب.
ومن هذا المنطلق نجد أن خلق الصبر خلق أساس يجعل صاحبه يتحلى بأخلاق أخرى مثل: الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش، أو العجلة. أما خلق العفة فيحمل صاحبه على: اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وعلى الحياء، ويمنعه من الفحشاء والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة. أما خلق الشجاعة فيحمل صاحبه المعروف به على: عزة النفس، والبذل، والحلم؛ ورابع هذه الأخلاق الأساسية هو خلق العدل، فهو يحمل صاحبه المتحلي به على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي نقيض هما: الإفراط فيها بشكل مذموم يخرجها عن حقيقتها، أو التفريط فيها، فنجد هذا الخلق الأساس يحمله على: خلق [ ص: 40 ] الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، كما يحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين خلقين مذمومين، وكذلك يحمله على خلق الحلم الذي هو وسط بين خلقين آخرين مذمومين، هما: الغضب والمهانة.
أما الأخلاق البغيضة المذمومة فمنشؤها أربعة أخلاق أساسية هي: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب، فالخلق الأول منها وهو الجهل: يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا؛ والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع؛ أما خلق الشهوة فيحمل صاحبه على: تحمل الحرص والشح والبخل وعدم العفة، والدناءات كلها؛ وخلق الغضب يحمل المتحلي به على: الكبر، والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه [4] .
ولقد حث الإسلام على مكارم الأخلاق، ولقد كان هذا الوصف هو السمة البارزة، التي أجملها أخو أبي ذر الغفاري، رضي الله عنه، عندما أرسل أخاه ليعلمه عن خبر هذا النبي، قبل إسلامه، فقال له واصفا ما شاهده من الرسول صلى الله عليه وسلم : "رأيته يأمر بمكارم الأخلاق" [5] . وصاحب الخلق الحسن هو [ ص: 41 ] من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا ) [6] . لذا لا عجب أن نجد هذا الاحتفاء بموضوع الخلق الكريم، والتحلي بمحاسن الأخلاق، ومكارمها في الدين الإسلامي.
ولعل أجمع تعريف لحسن الخلق هو قول بعض السلف: "حسن الخلق بسط الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى" [7] . وهو تعريف جامع لحسن الخلق، فبسط الوجه مأخوذ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( تبسمك في وجه أخيك لك صدقة ) [8] ؛ وبذل الندى وهو السخاء، وهو من جملة محاسن الأخلاق بل هو من أعظمها؛ وكف الأذى مأخوذ من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) [9] .
إن مما يميز الأخلاق في الإسلام عدد من الخصائص تجعل من التحلي بها أمرا ليس ميسورا فحسب، بل مرغوبا فطرة وديانة، ومن ذلك أنها ربانية، [ ص: 42 ] يقول الله عز وجل: ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) (النساء:174)، فهذه الأخلاق لا تخضع لمقاييس البشر، أو نسبية الزمان أو المكان "فمن تبصر بالأصول العامة للأخلاق في المفاهيم الإسلامية، وتبصر أن الأخلاق الإسلامية مقترنة بالوصايا والأوامر والنواهي الربانية، وتبصر بأن هذه الوصايا والأوامر والنواهي محفوفة بقانون الجزاء الإلهي بالثواب أو العقاب فإنه لا بد أن يظهر له بجلاء أن الأخلاق الإسلامية هي حقائق في ذاتها، وهي ثابتة ما دام نظام الكون ونظام الحياة ونظام الخير والشر أمورا مستمرة ثابتة، وهي ضمن المفاهيم الإسلامية الصحيحة غير قابلة للتغير والتبدل من شعب إلى شعب، و لا من زمان إلى زمان" [10] .
كما أن الأخلاق الإسلامية تتصف بالشمولية، وعدم الانتقائية في التطبيق، فالمسـلم يتحلى بالأخلاق ويترجمها سلوكا مع الجميع، يقول الله عز وجل: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8)، يقول القرطبي: "دلت الآية على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه" [11] . [ ص: 43 ] فالمسلم ينطلق في تعامله الأخلاقي مع الآخرين من كونه يتعامل مع جنس البشر، الذي كرمه الله، عز وجل، في قوله: ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70). قـال ابن الجـوزي في تفسـيره "زاد المسير": "أي فضلناهم، و (كرمنا) أشد مبالغة من (أكرمنا)" [12] . وهذا من المبالغة في التكريم حتى في اختيار اللفظ.
كما تتصف الأخلاق الإسلامية بالواقعية وعدم الجنوح إلى المثالية في التطبيق وذلك أخذا من قول عز وجل: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) (البقرة:286)، وكذلك من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) [13] ؛ وما شرع الله عز وجل الاستغفار إلا لمعالجة خطأ المسلم المتوقع، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) [14] . فمن هذه الواقعية والابتعاد عن المثالية كان تناول الخلق الإسلامي في حياة المسلم. [ ص: 44 ]