7- حقوق المسنين، من الكتاب والسنة.. وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم:
إن من سنن الله عز وجل في تكوين أي مجتمع من المجتمعات وجود طبقة من كبار السن، يعمرون ويطول بهم العمر، وقد اعتنى الإسلام بهذه الفئة، وأعطاها حقها من التقدير والاحترام والتكريم، وبخاصة أنه يصاحب هذه المرحلة ضعف عام في الإنسان، وذلك مصداق لقول الحق تبارك وتعالى: ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) (الروم:54). فالإنسان يمر بثلاث مراحل رئيسة: ضعف، ثم قوة، ثم ضعف، وهناك عدد من التغيرات التي تصيب الإنسان في حالة كبره: فهناك التغيرات الجسمية، والتغيرات الاجتماعية، ومن ذلك تقلص علاقاتهم الاجتماعية، والنفسية، والعقلية، والاقتصادية، وفي التراث النبوي الكثير من الوصايا بهذه الفئة، فضلا عن الممارسات العملية للمصطفى صلى الله عليه وسلم .
إن للمسن مكانته المتميزة في المجتمع المسلم، فهو يتعامل معه بكل توقير واحترام، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ) [1] . وفي إلقاء السلام أمر صلى الله عليه وسلم أن ( يسلم الصغير على الكبير، [ ص: 162 ] والمار على القاعد، والقليل على الكثير ) [2] ، وحـتى في الكلام أمر صلى الله عليه وسلم ، ألا يتكلم الصغير في أمر دون الكبير، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن تكلم عنده وفي القوم من هو أكبر منه: ( كبر الكبر ) [3] ، قال يحيى - وهو أحد رواة الحديث - يعني ليلي الكلام الأكبر.
وقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إكرام المسن وإجلال الله عز وجل، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ) [4] . بل ذكر ابن حجر في الفتح حديثا فيه توجيه إلهي كريم باحترام الأكابر، وتقديرهم، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أمرني جبريل أن أقدم الأكابر ) [5] .
كما نجد أن الإسلام راعى في أحكامه الضعف، الذي يعيشه كبير السن، ورتب على ذلك أحكاما خاصة بهم تتصف باليسر والتجاوز، مراعاة لحالتهم الصحية والبدنية، وهذا ما تمتاز به شريعة الإسلام من يسر وتجنب للعسر، يقول الله عز وجل: ( .. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ... ) (البقرة:185)، فنجد في بعض العبادات لهم معاملة وأحكاما خاصة ومن ذلك: الترخيص لكبير السن في إنابة من يحج عنه لكبر [ ص: 163 ] سنه وعجزه عن ذلك، فعن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: ( جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم ) [6] . فهذه الرخصة خاصة بكبير السن. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الذين يصلون بالناس بالتخفيف في صلاتـهم مراعاة لمن خلفهم من الضعفاء وكبار السن. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـال: ( إذا صـلى أحدكم للناس فليخفف، فإن منهـم الضعيف والسقيـم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء ) [7] .
كما رتب الإسلام على هذا التوقير والاحترام جزاء بمثله، استنادا لقول الله عز وجل: ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) (الرحمن:60)، أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق، ونفع عبيده، إلا أن يحسن خالقه إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير والنعيم والعيش السليم [8] . فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من [ ص: 164 ] يكرمه عند سنه ) [9] ، فهذا الحديث يبين أن إحسان الشاب للشيخ يكون سببا لأن يقيض الله له من يكرمه عند كبره.
ولم تقتصر هذه التوجيهات للعناية بالمسنين على المسلمين منهم فحسب، بل حتى مع الكفار في حالة الحرب، ففي الوقت الذي لم يعرف العالم الحديث آداب الحرب إلا في القرن الماضي، فقد جاء بـها الإسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم تظهر معاهدة رسمية حول آداب الحرب إلا في عام (1273هـ/1856م)، والتي تسمى (تصريح باريس البحري)، ثم توالت الاتفاقات وأبرزها اتفاقات جنيف التي دونت عام (1369هـ/1949م) والخاصة بمعاملة جرحى وأسرى الحرب، وحماية الأشخـاص المدنيين، ورغم وجود هذه المعاهدة فإنها لا تطبق إلا في حالة قيام الحرب بين دولتين موقعتين على المعاهدة [10] .
أما في الإسـلام، فكانت هـذه الآداب الحربية تطبـق ابتداء، حتى ولو لم يكن هناك أية اتفاقات أو معاهدات، فها هي سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطلق يمنة ويسرة ناشرة الخير والنور، ولقد اشتملت وصاياه صلى الله عليه وسلم ووصايا خلفـائه من بعـده إلى الجيوش على عدد من التوجيهات شملت جوانب عدة، منها: العناية بالشيـوخ وكبار السن، والاهتمـام بـهم، وعدم [ ص: 165 ] قتـلهم، أو التعرض لهم. يروى الطبراني عن سليمـان بن بريدة عن أبيه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا أو سرية دعا صاحبهم، فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: ( اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغـلوا، وتغـدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ولا شيخا كبيرا ) [11] . ويتضـح من نص الحـديث أن ذلك كان ديدنه صلى الله عليه وسلم في كل غزوة أو سرية، ولم تكن محض صدفة أو مقولة يتيمة خرجت من في رسـول الله صلى الله عليه وسلم فالراوي يقـول: ( كان رسـول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشـا أو سرية... ) فاللفظ يدل على تكرار ذلك الفعل.. وروى البيهقي عن خـالد بن زيد رضي الله عنه أنه قـال: ( خرج رسـول الله صلى الله عليه وسلم مشيعـا لأهـل مؤتة حتى بلـغ ثنية الوداع، فوقف ووقفـوا حـوله، فقال صلى الله عليه وسلم : اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم.. ولا تقتـلوا امرأة ولا صغـيرا ضرما ولا كبيرا فانيا، ولا تقطعن شجرة، ولا تعقرن نخلا، ولا تهدموا بيتا ) [12] .
ولم يتوقف الأمر على وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حث على عدم قتل الشيوخ فحسب، بل هدد من قتل شيخا أنه لن يسلم من تبعة ذلك الفعل، [ ص: 166 ] فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من قتل صغيرا أو كبيرا، أو أحرق نخلا، أو قطع شجرة مثمرة، أو ذبح شاة لإهابها، لم يرجع كفافا ) [13] .
ولا يتنافى هذا مع حـديث الرسـول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم ) [14] ، والشرخ: الغلمان الذين لم ينبتوا، فقتل الشيخ من المشركين محمول على أنه إذا كان يقدر على القتال ويقاتل ضد المسلمين، أما من كان منهم لا يطيق القتال ولا ينتفع به في رأي فلا يقتل، وعليه يحمل حديث منع القتل وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء [15] .
ولقد مارس صلى الله عليه وسلم توجيهاته نحو كبار السن في حياته العملية، فيحدث سهـل بن سعـد رضي الله عنه أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدا، قال: فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ) [16] . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يبدأ بكبار السـن [ ص: 167 ] ممن هم عن شمـاله، إلا أن السنـة أن يبدأ باليمين، ومن كرم خلقه صلى الله عليه وسلم أنه استأذن صاحب الحـق قبل أن يفعل، وبكل حال فالشاهد هنا، أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يوقر الكبير بتقديـمه في الشرب قبل غيره من الصغـار ممن كانوا في المجلس.
وفي مـوقف آخر، تقول السيدة عائشة، رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان فأوحي إليه أن أعط السواك الأكبر ) [17] . وفي فعله صلى الله عليه وسلم عندما أتاه عيينة بن حصن وعنده أبو بكر وعمر، رضي الله عنهم، وهم جـلوس جميعا على الأرض، فيدعـوا لعيينة بنمرقة - وسادة - فأجلسه عليها، وقال: ( إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه ) [18] .
كما أخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ) [19] . وذكر بعض العلماء أن مقتضى هذه الصيغة وهي قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ( ليس منا ) التحريم، ومن العلماء من جعلها كبيرة [20] . وأخرج الإمـام أحمـد في المسند عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ( جاء أبو بكر بأبيه، أبي قحافة، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، يحمله حتى [ ص: 168 ] وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه مكرمة لأبي بكر، فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غيروهما وجنبوه السواد ) [21] .
ولقد أوصى الإسلام بكبار السن، والتواصل معهم بطريقة أخرى غير مباشرة، وتتمثل هذه الطريقة في أمره صلى الله عليه وسلم بصلة صديق الوالدين، ففي الحـديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( من البر أن تصل صديق أبيك ) [22] ، بل عده الرسول صلى الله عليه وسلم من أبر البر، فعن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي ) [23] .
إن رعاية المسنين قد لا تبدو ظاهرة من هذه الآثار، ولكن بتأمل بعض جوانبها يتضح لنا ذلك، فمما لا شك فيه أن صديق الوالدين في الغالب الأعم سيكون كبيرا في السن، فعندما يقوم المسلم بصلة صديق والديه وإكرامه فهو في حقيقة الأمر قام برعاية أحد المسنين في المجتمع، إلى جانب [ ص: 169 ] بره بوالديه، وهذه إحدى صور البر الرائعة في المجتمع المسلم والتي تساعد أفراد المجتمع على القيام بدمج المسن في المجتمع، كما يؤدي ذلك إلى القضاء على العزلة التي قد يمر بها كبير السن، وبهذا التوجيه الكريم استطاع الإسلام أن يخفف من آثار التغيرات الاجتماعية التي يمر بها المسن، وكذلك التغيرات النفسية، لأن بينهما علاقة تأثيرية متبادلة. فحين يزور أفراد المجتمع أصدقاء آبائهم فذلك يعني أن الجيل المتوسط في المجتمع قد ارتبط تلقائيا بجيل كبار السن، وأصبح المسنون جزءا لا يتجزأ من المجتمع.
وخلاصة هذا المبحث، أن هناك العديد من التوجيهات النبوية لاحترام المسن في المجتمـع المسلم، وتوقـيره، وتقديمه في الأمور العامة والخاصة، وقد مارس ذلك صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقف يستدعي الأمر ذلك، ومعاملة المسنين في المجتمع بهذه الطريق الراقية التي كان يفعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم كفيلة بتحقيق حياة أسرية يحوطها الوفاء من جانب، والرحمة من جانب آخر، وكلاهما في النهاية مقصودة لذاتها في حث الإسلام على التعامل الأخلاقي مع المسنين في المجتمع المسلم. [ ص: 170 ]