الفصل الثاني
بلاغة القص وجمالية تلقيه
المبحث الأول
جمالية الانسجام والتناسب
يعد مصطلح "الانسجام" أحد المصطلحات المحورية، التي تندرج في مجال لسانيات النص [1] ، الذي يبحث في تماسك النصوص وتعالقها، ويدخل فيه الترابط الموضوعي للنص، الذي يجعل من النص وحدة دلالية، ومن مظاهره أيضا اشتمال النص على سيرورة واستمرارية وتطور واتجاه نحو غاية محددة، تضمن له التدرج والانتقال، وتنفي عنه الانتقال غير المسوغ [2] .
فهو يسعى إلى تحليل البنى النصية واستكشاف العلاقات النسقية المفضية إلى اتساق النصوص وانسجامها والكشف عن أغراضها التداولية. [ ص: 77 ]
وقد تميز هذا العلم في العصر الحديث بتعدد مدارسه وظهور عديد من المصـطـلحات الخـاصـة به كالانسـجـام والاتساق والتماسك وغيرها، لكننا لا نعدم بعض الدراسات النقدية والبلاغية في تراثنا، التي اهتمت بالتحليل، الذي تجاوز مجال الجملة إلى الوحدات النصية الكبرى، خاصة في الدراسات القرآنية. من ذلك ما قام به ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن"، الذي حاول النظر في القرآن بنظرة شمولية، وتعرض لقضية انسجام النص القرآني؛ والباقلاني خاصة في كتابه "إعجاز القرآن"، الذي تناول فيه قضايا الفصل والوصل وعلاقة بدايات السور بنهاياتها، ودور مقدمة السورة في التماسك الكلي للسورة وترابط موضوعاتها وأجزائها.
ولعل الجرجاني من أبرز من عالج قضايا تصب في وحدة النص وتماسكه وتعالق وحداته، خاصة في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز". بل هناك من المحدثين من يرى بأن لحازم القرطاجني السبق في الاهتمام بانسجام النص وتلاحمه وتحديده لبعض المفاهيم النقدية كمفهوم النظام والتأليف والتلاؤم وغيرها.
وكان للمفسرين أيضا إسهامات مهمة في هذا المجال، خاصة الترابط بين السور والآيات والمناسبة بينها. ويعد برهان الدين البقاعي في كتابه "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" من أبرز المفسرين، الذين ذكروا مقصد السورة ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها وما بعدها من السور، كما اعتنى الإمام السيوطي في مصنفه "معترك الأقران في إعجاز القرآن" بذكر وجوه إعجاز [ ص: 78 ] العلم بتناسب الآيات والسور. كما اهتم بذلك أيضا بعض المفسرين المحدثين أمثال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير"، وسيد قطب في كتابه: "في ظلال القرآن"... وغيرهم.
والمناسبة في اللغة هي المشاكلة والمقاربة، يقال: فلان يناسب فلان، فهو نسيبه، أي قريبه [3] ؛ وفي الاصطلاح: جعل أجزاء الكلام بعضها أخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء [4] .. والبحث في علم "المناسبة" هو بحث في انسجام النص.
وعلى العموم، فإن جمال القرآن الكريم في ذلك الانسجام والتناسب والتناسق، الذي يجمع بين أجزائه وسوره. وقد درس بعض المستشرقين القرآن الكريم، لكن أغلبهم ابتعد عن الإنصاف والموضوعية، واستخلصوا أن القرآن الكريم كتاب غير منسجم، ولا تتحقق فيه النصية [5] .
إلا أن هناك من كان منصفا، واحتفظ بالنظرة العلمية كالمستشرق الفرنسي "جاك بيرك" في كتابه "إعادة قراءة القرآن"، الذي رأى أن القرآن يعرف ترتيبا خفيا [6] . [ ص: 79 ]
من هنا يمكن أن يمثل الانسجام بعدا مهما في دراسة القصة القرآنية، لارتبـاطه بجـوانب التنـاسـب والتنـاسـق في أمور كثيرة يكشفها المتلقي، وهو لا يمكن أن يكون مظهرا خطابيا واحدا من مظاهر خطابية أخرى في المستوى الدلالي بل هو مظهر خطابي متعدد الجوانب والأبعاد [7] .
وهناك عدد كبير من مظاهر الانسجام في القرآن الكريم، وسنكتفي بالإشارة إلى بعضها كتماسك البناء وتناسب الأجزاء، والمقابلة، واللف والنشر، والمقدمة والخاتمة، والزمن والفاصلة، وذلك من خلال أنموذجين اثنين، أنموذج سورة الكهف، لاحتوائها على مجموعة من القصص القصيرة، وسورة يوسف لاحتوائها على قصة طويلة.