الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        نظرية السياق في التراث الإسلامي (محاولة في البناء)

        الأستاذ / محمد سالم بن دودو

        المبحث الأول

        اللبس في أصل الدلالة عند الواضع

        أشرنا آنفا إلى أن للبس في أصل الوضع ضميمتين هما؛ "انتفاء اللبس" و"حصول اللبس"، ذلك أن من الألفاظ ما وضع أصلا للدلالة على معنى واحد لا يستعمل في غيره كلفظ الجلالة "الله" مثلا، وكتاء القسم، وكاف التشبيه، وسين التنفيس؛ وهذا هو "انتفاء اللبس". ومنها ما وضع على الاشتراك كلفظ "العين" وككل "الأضداد" وكأغلب حروف المعاني؛ وفيه يـكون "حصول اللبس"، في مـفـردات اللغـة، ثـم يـحـصـل اللبس في بعض ما وضع لمعنى واحد بـ"مقتضى التركيب"، كما سيأتي قريبا.

        ذلك أن دلالة اللفظ حال تركيبه مع غيره، قد تختلف عن دلالته حال إفراده، وهذا ما سنبينه -بحول الله- ضمن مطلبين نخصص أولهما لمناقشة اللبس في الوضع الإفرادي،

        وثانيهما لمناقشة اللبس في الوضع التركيبي. [ ص: 114 ]

        المطلب الأول: اللبس في الوضع الإفرادي:

        ويكون من جهتين؛ جهة الوضع المعجمي وهو "الاشتراك الأصلي"، وجهة الوضع الصرفي وهو "الاشتراك العرضي".

        وعن الاشتراك الأصلي ومقابله الذي هو الترادف، يقول الإمام الشافعي (ت204هـ): إن العرب "تسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة" [1] .

        وقد حظي موضوع "الاشتراك الأصلي" باهتمامات كبيرة، يلمسها المطالع لكتب التراث الإسلامي، دون عناء. وهو واقع في الأسماء والأفعال وكثيرا ما مثلوا لـه بلفظ العـين الـذي يـدل حـسـب السـيـاق عـلـى الـبـاصرة، أو الضائرة، أو الجارية، أو المؤكدة، أو الجاسوس، أو العريف، أو النقد.

        وأكثر أوجه الاشتراك في المفرد ما كان في حروف المعاني، لذلك قلما تطالع كتابا من كتب النحو أو البلاغة أو الأصول أو الفقه أو علوم القرآن.. إلا وجدت فيه مباحث خاصة بهذا النوع.. فضلا عن الكتب المتخصصة [2] .

        وقد صنف الأقدمون في أنواع من الاشتراك كتبا مستقلة، ومنها كتب الأضداد [3] ، التي عنيت بالألفاظ المنطلقة بالتساوي على الشيء وضده؛ كلفظ القرء والتعزير من الأسماء، وعسعس من الأفعال.. [ ص: 115 ]

        واهتم به الأصوليون في باب الدلالات وخصوصا في المطلق، والمجمل، والمشترك.. وتناوله المناطقة في باب الاشتراك كذلك.

        وأما "الاشتراك العرضي" الآتي من قبل "القوالب الصرفية" (أوزانا وصيغا)، فإنه موضوع علم الصرف؛ ومن أمثلته لفظ يضار؛ المحتمل لصيغتي (يضارر ويضارر) باسم الفاعل واسم المفعول، ولفظ المختار؛ المحتمل للدلالة على اسم الفاعل وعلى اسم المفعول كذلك.. ومنه اشتراك بعض الصيغ الصرفية في وزن واحد كالمصدر الميمي واسم الزمان واسم المكان، وتردد الصيغة الواحدة بين أوزان عدة كالمبالغة، وكلها "جوالب للبس" في أصل "الوضع الإفرادي" للفظ.

        ويعول علماء اللغة عند "حصول اللبس" في أصل "الوضع الإفرادي" على دلالة السياق لـ"دفع اللبس" عند "الاستعمال"، أو "رفعه" عند "الحمل"؛ وفي ذلك يقول الشاطبي (ت790هـ): "كالاستفهام لفظه واحد؛ ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ، وغير ذلك.. وكالأمر؛ يدخله معنى الإباحـة، والتـهـديـد، والتـعـجـيز، وأشباهـها.. ولا يدل على معنـاهـا المراد إلا الأمور الخارجة وعمدتها مقتضيات الأحوال" [4] . [ ص: 116 ]

        المطلب الثاني: اللبس في الوضع التركيبي:

        مما يـمـيز اللغـة العربية عـن كثـير من اللغات مرونتها في ترتيب الجمل، إذ تـجيز تقديـم الخـبر وتأخـير المبتـدأ، وتـجيز تقديم المفعول على الفعل والفـاعـل معـا أو توسطه بينهما، وتقديم ثاني المفعولين على أولهما.. وما قيل في عمـد الجـمـل، يقـال نـحـوه بالضـرورة، وربـمـا أكثر في كل فضـلـة بـها. وفي ذلك يـقـول ابن تيـمـيـة (ت728هـ): "فـالأصـل إقرار الكلام على نظمـه وتـرتـيـبـه، لا تغيير ترتيبه. ثـم إنـما يـجوز فيه التقديـم والتأخير مع القرينة. أما مع اللبس فلا يجوز، لأنه يلتبس على المخاطب" [5] . وقد حصر ابن السراج (ت316هـ) ما يمتنع فيه التقديم بالعد، وعرف ما يجوز فيه بالحد، فقال: "الأشياء التي لا يجوز تقديمها ثلاثة عشر سنذكرها، وأما ما يجوز تقـديـمـه فـكل مـا عمـل فيه فـعـل متـصرف، أو كان خبـرا لمبتدأ سوى ما استثنيناه"

        [6] . وبالاستقراء التام يتبين أن مدار ذلك كله على منع اللبس. [ ص: 117 ]

        بل أكثر من ذلك يجيز علماء اللسان حذف الفضلة مطلقا والعمدة أحـيـانـا.. ويـبين الزركشـي (ت794هـ) شروط ذلك، فيقول: "فمنها أن تـكون في المـذكور دلالـة على المحـذوف؛ إما من لفظه، أو من سياقه. وإلا لم يتمكن من معرفته؛ فيصير اللفظ مخلا بالفهم، ولئلا يصير الكلام لغزا فيهجن في الفصاحة.. وهو معنى قولهم: لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى. وتلك الدلالة: مقالية، وحالية. فالمقالية؛ قد تحصل من إعراب اللفظ، وذلك كما إذا كان منصوبا فيعلم أنه لا بد له من ناصب" [7] ، ويختصر الآلوسي (ت1270هـ) الطريق، فيقول: "والصحيح أن مدار صحة الحذف؛ القرينة، فمتى وجدت جاز الحذف، ومتى لم توجد لم يجز" [8] .

        ولا شك أن في كل هذه الوجوه جوالب للبس في الوضع التركيبي لم تكن في الوضع الإفرادي.

        وعليه فقد تدخل الاحتمالية بعض التراكيب التي لا توجد فيها مفردات متعددة المعنى، وذلك من جهة نفس التركيب كما أشرنا في الرتبة، وفي الحذف، [ ص: 118 ] والزيادة، أو من جهة مرجع الضمير، أو جهات التقارض، والإشراب، والاعتراض، والالتفات، والكناية، والتردد بين الحقيقة والمجاز..

        وفي هذا المعنى يقول الإمام الغزالي (ت505هـ) ملخصا "جوالب اللبس" في الدلالة الوضعية للفظ إفرادا وتركيبا: "اعلم أن الإجمال تارة يكون في لفظ مفرد، وتارة يكون في لفظ مركب، وتارة في نظم الكلام، والتعريف، وحروف النسق، ومواضع الوقف، والابتداء..." [9] .

        بل إن الألفاظ المـوضـوعة لمعنى واحد حال إفرادها، قد تحتمل غيره معه أو دونه، بسبب التركيب مع غيرها، ومن أمثلة ذلك ما يشير إليه الزركشي (ت794هـ) وهو يستعرض آراء المفسرين في قول الله عز وجل : ـ ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) (الضحى:5)، فيقول: "السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة، تمحضت لإفادة الوقوع. وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب. وفيه نظر؛ لأن: ذلك يستفاد من المقام لا من السين" [10] ، ومن ذلك قول أبي حيان (ت745هـ): "وكون "قد" إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قول بعض النحاة، وليس بصحيح. وإنـما التـكثـير مفـهوم من سياقة الكلام في المدح والصحيح في "رب" إنـهـا لتـقـلـيـل الـشـيء أو تـقـلـيـل نـظـيـره، فإن فـهـم [ ص: 119 ] تكثير فليس ذلك من "رب"، ولا "قد"، إنـمـا هـو مـن سـيـاقـة الكلام، وقد بين ذلك في علم النحو" [11] .

        فالزركشي وأبو حيان وإن ردا كلاهما قول بعض النحاة في تعدد معاني سين التنفيس، وقد، ورب ونحوها مما الأصل فيه عدم الاشتراك، إلا أنهما أثبتا أن هذه الأدوات قد يمتنع حملها على ما وضعت له أصالة بسبب التركيب، وإن أحالا ذلك إلى السياق لا إلى تعدد معاني تلك الأدوات، وهو الصحيح. لكنه لا ينافي ما أردناه من أن اللبس قد يحصل في معاني مفردات لم يكن فيها لبس حال إفرادها، بسبب وجودها في تركيب معين.

        فقضية اللبس إذا ليست "حالة عرضية" في اللغة العربية بل هي "ظاهرة متجذرة" في "وضعها" كما رأينا، وفي "استعمالها" كما سنرى، وهي سر جمالها ومكمن بلاغتها بإجماع علمائها، كما يشهد بذلك الإمام الشافعي (ت204هـ) حين يقول: "فإنـما خـاطب الله بـكتـابـه العرب بلسـانـهـا على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها (...) وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها" [12] . ولهذه المعاني قيل: "العربية حمالة أوجه". [ ص: 120 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية