الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        نظرية السياق في التراث الإسلامي (محاولة في البناء)

        الأستاذ / محمد سالم بن دودو

        المبحث الثاني

        مثارات الغلط في منهج الحمل

        يمكننا أن نصنف الأخطاء في الحمل عموما إلى أخطاء تتعلق بالمنهج، وأخطاء تتعلق بالنتيجة، وأخطاء تتعلق بهما معا، غير أن الذي يهمنا في هذا المقام هو الخطأ في المنهج بغض النظر عن صحة النتيجة أو خطئها، لأن صحتها مع حصول الخطأ في المنهج غير معتبرة، كما يشير إليه الإمام الشافعي (ت204هـ) بقوله: "ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب (إن وافقه من حيث لا يعرفه)؛ غير محمودة، والله أعلم. وكان بخطئه غير معذور، إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه" [1] ، ولأن الخطأ في النتيجة بعد صحة المنهج مغتفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) [2] .

        فموضوعنا إذا هو المنهج، سلامة وفسادا؛ وقد بينا في المبحث السابق شروط السلامة وضوابطها، وبقي أن نبين أسباب الفساد وبعض تجلياته في مناهج الحمل، وهو ما نعالجه بإذن الله في هذا المبحث. [ ص: 174 ]

        ونورد تمهيدا له نصا لابن القيم (ت751هـ) يلخص فيه أهم تجليات فساد منهج الحمل، فيقول: "والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، وتحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين" [3] ، وقد سبقه إلى أصل هذا التصنيف الثنائي ابن تيمية (ت728هـ)، حيث يقول ضمن نص مكتنز سنناقشه في ثنايا هذا المبحث بإذن الله: "نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق" [4] ، ويعضـد الشـاطـبي (ت790هـ) نـظر الشيخـين، فيقول: "فالحاصل أنه لكل علـم عـدل، وطرفا؛ إفراط، وتفريط، والطرفان هما المذمومان، والوسط هو المحمود" [5] . [ ص: 175 ]

        لكن الذي أميل إليه بعد التأمل ومطالعة المزيد من نقولهم هو أن الخطأ في المنهج يأتي من جهة إهمال النظر في أحد الأركان الثلاثة ذات الوجود المستقل ضمن آلية السياق، وهي المقال، والمقام، والنسق. فإذا أهمل الناظر مقتضى أحدها معتمدا على الآخرين أو على أحدهما؛ فقد وقع في خطأ منهجي لا محالة، صح بعد ذلك تفسيره أو فسد.

        وبناء على هذا نحصر الأسباب الرئيسة للخطأ في منهج الحمل في ثلاث مثارات؛ أولها: إهمال مقتضى المقال، وثانيها: إهمال مقتضى المقام، وثالثها: إهمال مقتضى النسق. وسنخصص لكل مثار منها مطلبا مستقلا.

        المطلب الأول: الأخطاء الناشئة عن إهمال مقتضى المقال:

        يقول ابن تيمية (ت728هـ) عن هذه الفئة: "قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (...) راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان (...) تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وقد يكون حقا، فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول" [6] . [ ص: 176 ]

        ويركز في نص آخر على تقنين الحمل على المعاني الاستعمالية، فيقول: "قد يجوز للإنسان أن يستعمل هو اللفظ في نظير المعنى الذي استعملوه فيه مع بيان ذلك، على ما فيه من نزاع، لكن لا يجوز أن يعمد إلى ألفاظ قد عرف استعمالها في معان فيحيلها إلى غير تلك المعاني، ويقول إنهم أرادوا تلك بالقياس على تلك، بل هذا تبديل وتحريف" [7] .

        فكأنه يقصد أن الاستعمال حر؛ "إذ لا مشاحة في الاصطلاح"، لكن الحمل على مقتضى ذاك الاصطلاح يشترط فيه أمران؛

        أولهما: تقدم الاصطلاح على ورود النص المراد حمله عليه، فلا يمكن أن نحمل مثلا لفظ السيارة في سورة يوسف على دلالتها المعروفة اليوم.

        وثانيهما: قيام قرينة من عادة المتكلم أو من مقتضى كلامه أو غير ذلك، تمنع إرادة الدلالة الوضعية للفظ، أو ترشد إلى إرادة المدلول الاستعمالي المراد الحمل عليه.

        ويجعل الشاطبي (ت790هـ) المعيار في صحة حمل ألفاظ القرآن هو الوقوف فيها على ما حدته العرب وما يقدرون عليه من الألفاظ والمعاني، [ ص: 177 ] فيقول: "فلا يستقيم (...) أن يتكلف فيها فوق ما يسعه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به، والوقوف عند ما حدته" [8] ، ويقول: "فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه من الألفاظ والمعاني" [9] .

        ويصرف الجويني (ت478هـ) النظر إلى منحى آخر من سعة كلام العرب، كالتردد بين الحقيقة والمجاز، وتغير المعنى بحسب العلاقات الإعرابية، مبينا ضرورة تمرس الناظر في مقتضيات اللسان العربي عموما، فلا يكفي عنده مجرد الإحاطة بالدلالات الوضعية للألفاظ، فيقول: "اللغة استعارات وتجوزات؛ قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة، وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم المعاني، وأيضا فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق، ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ، فأما ما يدل عليه النظم والسياق فلا. ويشترط أن يكون المفتي عالما بالنحو والإعراب، فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها" [10] .

        وتبعه الغزالي (ت505هـ)، فقال: "ولا بد من علم اللغة؛ فإن مآخذ الشرع ألفاظ عربية، وينبغي أن يستقل بفهم كلام العرب، ولا يكفيه الرجوع إلى الكتب، فإنها لا تدل إلا على معاني الألفاظ. فأما المعاني المفهومة من سـياقها وتـرتـيبها، لا تفـهـم [إلا يسـتقـل بها] [11] . والتعـمـق في غرائب اللغـة لا يشترط. ولا بد من علم النحو فمنه يثور معظم إشكالات القرآن" [12] . [ ص: 178 ]

        ويجدر التـنبـيـه هنا إلى أن الأخطاء الناشئة عن إهمال مقتضى المقال لا تنحصر في جهله أو تجاهله، وإن كانا هما أبرز أسبابها، بل إنها قد تحصل بسبب الغفلة عن بعض تلك المقتضيات في لحظة معينة، وهذا النوع من الأخطاء لا ينجو منه أكابر النظار من منظري الدرسين اللغوي والأصولي، وقد استعرضنا طرفا منه في بحثنا السابق ضمن تقعيداتهم السياقية لدلالات الأفعال، وإعمال المفاهيم وإهمالها، وأوجه الدلالة وغيرها..

        وذكرنا أن المطالع لكتب الأصوليين كثيرا ما يلاحظ إحالتهم إلى السياق عموما أو إلى نظم الخطاب خصوصا، لكن دون أن يربطوا الدلالة بالعلة المؤثرة فيها حقيقة، إلا نادرا.

        وأن الغالب الأعم منهم يقترب من ذلك إلى حد ما، ثم يرجع من دونه.. ونمثل لذلك بقول الزركشي (ت794هـ)، وهو يتحدث عن مواطن عموم "الذي"، وخصوصه: "وإنما يكون "الذي" [يعني عاما] إذا كانت جنسية، كقوله : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) (البقرة:4)، ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ) (النساء:10)، ولا شك أن العموم مستفاد من الصيغة. أما العهد فلا. كقوله : ( وقال الذي آمن يا قوم ) (غافر:30)، ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) (المجادلة:1)، ونحوه" [13] . [ ص: 179 ]

        فقـد حكم الزركشي (ت794هـ) بأن العموم في الآيتين الأوليين مستفاد من الصيغة (يعني نظم الخطاب)، لكنه لم يضع اليد على قرينة العموم. وهـي: أن الفعـلـين الواقعين صلة للموصول في الآيتين، وإن كانا على صيغة المضارع لفظا، فإن معناهما لا يفيد المعنى الضيق للمضارعة. بل يتخـذ امتدادا زمنيا أكبر لما يتضمنانه من معنى الشرط وترتب الجزاء، ومـا يعنـيـه ذلك من انفتاح على المستقبل يجعل الموصول غير معين، بل هو شامل لكل من يتحقق فيه معنى ذلك الفعل كيفما كان، ومتى كان، وأينما كان.

        وعلى النقيض من ذلك نجد صلة الموصول في الآيتين الأخريين فعلين ماضـيين لفظا ومعنى، لـكونهما يحكيان حـادثتي عيـن. فلم يحتـملا عموما ولا إطلاقا ولا تقييدا، لأن الأفعال لا تقع في الوجود إلا معينة، فتتمحض للخصوص. ولقد نص الآمدي (ت631هـ) على ذلك، فقال: "ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي، كقوله: رأيت رجلا، ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه" [14] .

        ومن هذا القبيل دلالات الظروف.. التي تراءت لبعض الأصوليين فأشار إليها، ولم يضع اليد على العلة، ولم يسمها باسمها. ونمثل لهذا الصنف بقول الباجي (ت474هـ): "ولو قال له: عندي الدراهم، لم يحمل على [ ص: 180 ] العموم، لأنه قد علم من جهة العرف معرفة قطع؛ أنه لم يرد استغراق الجنس. فكان ذلك قرينة على التخصيص" [15] ، فأحال التخصيص على العرف، والتدقيق أن يقول: إن معنى الحيازة القائم في الظرف "عندي" يمنع عقلا من الاستغراق، ويحتم التعيين؛ إذ لا يتصور تحقق وقوع الحيازة على غير معين.

        ومن أمثلة هذا النوع من الوهم الناشئ عن إغفال بعض مقتضيات المقال، ما يحصل عندهم أحيانا من التعميم رغم الفوارق بين السياقات، بسبب عدم ربط الدلالة بالعلة المؤثرة فيها حقيقة؛ كما حصل للرازي (ت606هـ) في تحقيقه لـ"ما ألحق بالعموم وليس منه"، حيث قال: "الواحد المعرف بلام الجنس لا يفيد العموم (...) لنا وجوه؛ الأول: أن الرجل إذا قال: لبست الثوب، وشربت الماء؛ لم يتبادر إلى الفهم الاستغراق" [16] ، وقد غفل (رحمه الله) عن سبب إفادة هذين المثالين للخصوص، وهو: "تأسيسهما على فعلين ماضيين لفظا ومعنى"، فلا يتصور فيهما الوقوع على غير معين بحال. ولـو أنه جعـل هـذين الاسمـين المفـردين المحليين بلام الجنـس في سياق لا يتضمن مثل ذينك الفعلين؛ لما امتنع فيهما العموم، كما لو قلنا مثلا: يتخذ الماء إذا تجمد شكل وعائه، أو قلنا: الماء يطفئ النار، أو قلنا: حسن الثوب بنظافته، أو قلنا: أوجب الإسلام على المرأة تحري إسباغ الثوب الذي تخرج فيه.. [ ص: 181 ]

        فمن يشك في استغراق لفظ الماء في المثالين لكل أنواع المياه، وإطلاقه في كل صفاتها؛ من عذوبة، وملوحة، وبرودة، وسخونة، ونظافة، وأسونة.. ومصادرها؛ بحرا، أو مطرا، أو بئرا.. وقل الشيء ذاته في الثوب فهو عام في كل أشكال الثياب؛ فإن حسنها بنظافتها.. وإن الثوب في المثال الثاني عام في المرط، والجبة، والجلباب، والملحفة، وغيرها.. مطلق في الألوان والصفات.. إلا ما أخرج بدليل كالشفافية والتحديد.

        ومـكمن الخـطأ في هـذا الأمـر هـو ربطه للدلالة بغير علتها، وهو ما حصل له أيضا في قوله: "النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم؛ كقولك: جاءني رجل. وإذا كان أمرا، فالأكثرون على أنه للعموم، كقوله: أعتق رقبة. والدليل عليه: أنه يخرج عن عهدة الأمر بفعل أيها كان، ولولا أنها للعموم، وإلا لما كان كذلك" [17] ، لكن الخطأ هنا كان من جهة الاستدلال دون النتيجة، وكان الخطأ هناك من جهة الاستدلال، ومن جهة النتيجة معا.

        ذلك أن قوله: "النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا لا تقتضي العموم"، صحيح المعنى، لكن سوقه له يوهم أن الجالب للخصوص هو التنكير، والواقع أن الجالب له هو الفعل الماضي لفظا ومعنى، (أو معنى فقط) الذي يتأسس عليه المثال، والذي يقتضي ضرورة تعين ما يقع عليه أو يقع منه؛ نكرة كان [ ص: 182 ] (كما في هذا المثال) أو غيرها (كما في مسألته؛ شربت الماء)؛ فلو أنه وضع اليد تماما، على هذه العلة لحل بها إشكالي؛ النكرة، والاسم المفرد المحلى بلام الجنس، في صورة الإثبات.

        وذهب التركيز على سياق معين بالإمام الرازي إلى أبعد من ذلك، فرد قولهم: "أهلك الناس الدرهم البيض، والدينار الصفر" بالشذوذ، متمسكا بقبـح قول: "رأيت الإنسان إلا المؤمنين"، ولم ينتبه إلى أن ذلك ما قبح إلا لتأسسه على فعل ماض لفظا ومعنى، فلا يتصور فيه الوقوع على غير معين، فتلزم -بذلك- دلالته على الخصوص.

        والحاصل؛ أن الغالب في مثل هذه الأحكام أن تنبني على أساس التعلق بأمثلة محددة ذات سياق معين، تفيد القطع في معنى ما، ثم يعممها القائل بها على السياقات الأخرى، دون مراعاة الفوارق..

        وهذا ما نبه عليه الجويني (ت478هـ) حين قال: "ثم التعلق بالأمثلة، والكلام في بناء القواعد والكليات؛ ذهاب عن مسلك التحصيل، فإن آحاد الأمثلة يمـكن حمل الأمر فيها على جهات من التخصيص لا تنضبط، فلا يستمر إذا مثل هذا في محاولة عقد الأصول" [18] . [ ص: 183 ]

        المطلب الثاني: الأخطاء الناشئة عن إهمال مقتضى المقام:

        يقول ابن تيمية (ت728هـ) عن هذه الفئة: "قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به (...) راعوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام" [19] .

        ويؤكد الرازي (ت606هـ) خطأ هذا المنحى من النظر، فيقول: "الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من هذه الدلائل اللفظية، إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين، سواء كانت تلك القرائن مشاهدة، أو كانت منقولة إلينا بالتواتر" [20] .

        ويشير ابن القيم (ت751هـ) إلى نماذج من ذلك في معرض حديثه عن التأويلات الفاسدة، فيقول: "تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بيانا ولا هدى" [21] . [ ص: 184 ]

        ويؤكد الجويني (ت478هـ) في مواضع عدة أن قرائن الأحوال أقوى من قرائن الأقوال، فيقول ردا على من يشككون في دلالة القرينة: "ما نقله النقلة يختص بقرائن المقال، على ما فيه من الخبط، فأما قرائن الأحوال، فلا ينكرها أحد" [22] ، ويقول: "وقرائن الأحوال متقبلة عند الكافة" [23] ، ويقول: "لا يعتقد الوقف مع فرض القرائن الحالية على نهاية الوضوح ذو تحصيل" [24] .

        ويركز الزركشي (ت794هـ) على الاحتمالية المتجذرة في دلالات الألفاظ وضعـا واستعمـالا وإفرادا وتركيبا.. ليـؤكد أنه لا سبيل إلى رفـع اللبس فيها إلا بإعادة البصر كرتين في مقتضيات الأحوال ومساقات الخطابات، فيقول: "ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز، ولهذا ترى صاحب الكشاف يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا حتى كأن غيره مطروح" [25] .

        ونقل عنه السيوطي (ت911هـ) قوله في موضع آخر: "على المفسر مراعاة مجاري الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف، والقطع بعدم الترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد، ولهذا منع كثير من [ ص: 185 ] الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب، وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد" [26] .

        وينتقد ابن تيمية (ت728هـ) على بعض ظاهرية الحنابلة تعصبهم لصرائح صيغ العقود، وإهمالهم لمقتضيات الأحوال المعضدة للكنايات، فيقول: "وأصول الإمام أحمـد ونصوصه تخالف هذا، فإن من أصله أن العقود تنعقد بما يدل على مقصودها من قول أو فعل، فهو لا يرى اختصاصها بالصيغ. ومن أصله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح، لا تفتقر إلى إظهار النية، ولهذا قال بذلك في الطلاق والقذف وغير ذلك" [27] .

        ومن تطبيقاتهم في هذا المنحى قول ابن الهائم (ت815هـ): إن في لفظ الخليل تفسيرين؛ أحدهما: الصديق، والثاني: المصطفى، ثم قال مرجحا الثاني: "وهذا التفسـير صـواب. والـذي قبـله بعيد عن الصـواب في هـذا المقام، وإن صح لغة" [28] .

        ويذهب الأصوليون إلى أبعد من ذلك، كما مر بنا قريبا، فيجيزون حمل الكلام الواحد على المعنيين المتناقضين حسب مقتضيات الأحوال، كما في قول السرخسي (ت483هـ): "الكلام الواحد قد يكون مدحا، وقد يكون [ ص: 186 ] ذما، وإنما يتبين أحدهما عن الآخر بالمقدمة، ودلالة الحال، فإن لم تعتبر دلالة الحال لا يتميز المدح من الذم" [29] .

        ولا نجد ختاما لهذا المعنى أوجز ولا أبلغ من مقولة الإمام الشاطبي (ت790هـ): "وجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان" [30] .

        المطلب الثالث: الأخطاء الناشئة عن إهمال مقتضى النسق:

        وقد اعتنى الشاطبي (ت790هـ) كثيرا بهذا المثار الذي لم يتطرق إليه سلفاه في تصنيفهما الثنائي، وإن كانا تطرقا إليه في مواطن أخرى، كما تطرق إليه قبلهم أجمعـين الإمـام الشـافـعي (ت204هـ) في رسالته، فقال: "فكل هـذا موجـود عـلـمـه؛ في أول الـكلام أو وسطه أو آخره. وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظهـا فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله" [31] .

        وبيانا لذلك يقول الشاطبي بوجوب: "الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية، وما اقتضاه الحال فيها؛ لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل، فبعضها متعلق [ ص: 187 ] بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره. وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النـظر في أجـزائه فـلا يتوصل به إلى مـراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض، إلا في موطن واحد؛ وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان" [32] .

        ويقول: "الشريعة كالصورة الواحدة (...) لا يطلب منها حكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها أي دليل كان" [33] .

        وقد نبه من قبله ابن حزم (ت456هـ) على هذا المعنى فقال: "والحديث والقرآن كله كلفظة واحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل" [34] .

        ثم أشار إليه برهان الدين البقاعي (ت885هـ) حيث يقول: "وأن ذلك هو المراد لا ما طال الخبط فيه لإهمال في السوابق واللواحق الموجبة لسوق المقال مطابقا لمقتضى الحال" [35] .

        واعتـنى بـه أئمة المحـدثين فقـال الإمـام أحمـد (ت241هـ): "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا" [36] ، وقال يحيى بن معين [ ص: 188 ] (ت233هـ): "لو لم نكتب الحـديث من ثـلاثين وجـها ما عقـلناه" [37] ، وقال علي بن المديني (ت234هـ): "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" [38] .

        وقد نبه ابن القيم (ت751هـ) إلى أن هذا النظر الشمولي من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تفاوت الناس في الفهم، فقال: "وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به؛ فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم. فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا، وتعلقه به، وهذا كما فهم ابن عباس من قوله تعالى: ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) (الأحقاف:15) مع قوله: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ) (البقرة:233)؛ أن المرأة قد تلد لستة أشهر. وكما فهم الصديق من آية الفرائض في أول السورة، وآخرها؛ أن الكلالة من لا ولد له، ولا والد" [39] .

        واقتباسا من هذا النسق من النظر تأملت قول الله في بشارته لمريم بشأن عيسى عليهما السلام: ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) (آل عمران:48)، وقوله عز وجل ممتنا على عيسى : ( وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) (المائدة:110)، [ ص: 189 ] ولاحظت إجماع المفسرين على تحاشي حمل لفظي؛ "الكتاب والحكمة" فيهما على "القرآن الكريم والسنة النبوية"؛ خلافا لمعهودهم في تفسيرهما ما لم توجب قرينة ما خلافه.

        وتأكدت أنهم ما صرفوا اللفظين عن ذلك المعنى إلا خشية أن يلزم منه أن عيسى عليه السلام قد علم القرآن الكريم والسنة النبوية تفصيلا كما علم التوراة والإنـجيل تفصيـلا، قبل بعثـة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن عليه، فيكون الوحي بهما إليه، قد سبق الوحي بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهو محال قطعا.

        ولكنه بدا لي -والله تعالى أعلم- أنه لا يلزم من لفظ الآيتين أن يكون تعـليـم عـيسـى القرآن والسنـة، كان قبل الوحي بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما علمه بهما بعد ذلك فلا خلاف فيه، لما هو معلوم من شأنه حين ينزل قاضيا وحاكما بملة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعيش فيهم سنين قاضيا بينهم بهذه الملة، وكيف يحكم بها ما لم يعلمه الله القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؟!

        ثم إن لفظ الآيتين غير مانع من إرادة هذا المعنى؛ فحين كان الخطاب لمريم وردت الآية بالفعل المضارع المتمحض للاستقبال: ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) ، ومعلوم أن الواو لا تفيد جمعا ولا ترتيبا، فلا يمتنع أن يكون المقصود يعلمه التوراة والإنجيل حين يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، ويعلمه القرآن والسنة حين ينزله منقذا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال. وتكون نكتة تقديم الكتاب والحكمة على التوراة والإنجيل في اللفظ، هي الإيذان بما تقرر إجماعا من تفضيلهما عليهما. [ ص: 190 ]

        وقد قال بعض المفسرين بنحو هذا المعنى في تفسيرهم لقوله : ( تكلم الناس في المهد وكهلا ) (المائدة:110) قال الطبري (ت310هـ): "قد كلـمهم عيسى عليه السلام فـي الـمهد، وسيكلـمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهل" [40] ، ولعله الأنسب؛ لما فيه من تكليمه الناس في حالين استثنائيين.

        وأما الآية الثانية؛ التي ورد فيها الفعل ماضيا لفظا ومعنى إجماعا، فإنها وردت في سياق تذكير عيسى عليه السلام بنعم الله عليه، حين وقوفه بين يدي ربه يوم القيامة، قبل أن يسأله في لحاق الآية، وهو أعلم: ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) (المائدة:116)، وهو في هذا الوقت قد تمت نعمة الله عليه بتعليمه القرآن والسنة بعد تعليمه التوراة والإنجيل.

        وأما سباق الآية، فلا ينافي المعنى كذلك، لأنه صريح في كون التذكير بهذه المنة يكون: ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) (المائدة:109)، وفي لحاقها كذلك: ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) (المائدة:119).

        وعليه؛ فلا أعتقد أن ثمة داعية لصرف اللفظين في هذين الموضعين عن معهودهما في أغلب مواردهما في القرآن الكريم، خصوصا مع ما في حملهما على هذا المعهود -من جهة- من كرامة لعيسى عليه السلام ، وإيناس لأمه، إذ بشرت بأن له شأنا في الأمة الخاتمة، زيادة على شأنه في أمته. وما فيه -من جهة ثانية- [ ص: 191 ] من مناسبة لمقام الامتنان في خطاب عيسى عليه السلام ، ومناسبة لمقام البشارة والإكرام في خطاب مريم عليها السلام.

        وفي ختـام هذا المبحث نشير إلى أننا اكتفينا بمناقشة "منهج الحمل" وما قد يعتريه من مثارات للغلط، وأهملنا الحديث عن مناقشة "طبيعة الحامل" وما قد يعتريه من موجبات للغلط، وهو ما أشار إليه ابن القيم (ت751هـ) بقوله: "... فهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها" [41] ، وفصله في موضع آخر بقوله: "والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص؛ وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه، واعتباره" [42] .

        كما تـجدر الإشارة إلى أننا ذكرنا هذا السبب مع المثارات الثلاثة المتقدمة إجمالا، وبطريقة أخرى حين اعتبرناها جوالب للبس في قصد التفهم عند الناظر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية