مقدمة
الحمد لله، الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير.
وبعد:
فهذا الكتاب دراسة علمية مقارنة وقراءة تحليلية تجديدية لوظيفة الدولة، في ضوء الفكر السياسي للإمام الجويني [1] ، مقارنا بآراء فلاسفة الغرب والكتاب من فقهاء الأمة، إذ يتناول وظيفة الدولة باعتبارها إحدى مؤسسات الأمة للنهوض بما كلفت به.
فهو يهدف لتحديد وظيفة الدولة في الفكر السياسي، من "أفلاطون" وصولا إلى فلاسفة الفكر الليبرالي الحديث، مقارنا هذه الأفكار بما قدمه فقهاء المسلمين، لا سيما الإمام الجويني، رحمه الله.
وتبرز الدراسة تحليل الجويني لوظائف الدولة وتأصيله لها، على مستوى حفظ الدين على أصوله، وتقديم خدمات أمنية على المستوى الداخلي والخارجي، وتنظيم وإدارة المجتمع، وسن التشريعات والتدابير المناسبة، وبناء ثقافة جامعة، وحفظ حقوق الإنسان بما يساعد على بقاء الاجتماع الإنساني، [ ص: 5 ] والارتقاء به، بتلبية مصالحه الضرورية والحاجية والتحسينية.
كما تهدف الدراسة لبيان مسوغ وجود الدولة، وحاجتها للدين، وحاجة الدين للدولة، ومدى تدخل الدولة في التنظيم والإدارة، وبناء القيم.
ولتحقيق أهدافها، تسعى الدراسة للإجابة عن عدة تساؤلات تتصل بالحالات، التي يسوغ فيها للدولة أن تتدخل بالتنظيم والتقييد، وما هي صلاحية الدولة في الشأن الديني؟ وكيف توازن الدولة بين مصلحة حفظ الأمن وحفظ الحريات العامة؟ وكيف تبني فكر المواطنة الجامع؟ وما هو المنهج الفقهي المقبول لسن السياسات المصلحية؟
ولعل من أهم الأسباب، التي دعت لإجراء هذه الدراسة أن الإمام الجويني، رحمه الله، وكتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" [2] ، الذي يعبر عنه اختصارا بـ "الغياثي"، يمثل أنموذجا للفقه السياسي المتحرر من التقليد والمنضبط في الوقت نفسه بكليات الشريعة.. وقد عبر الجويني عن منهجه بأنه لا يتهيب مخالفة من سبق، فهو غير مقلد فيما يقدم من حلول لما يواجه الدولة، ولكنه لا يبتدع ولا يخترع وإنما يستثير أمرا كليا.. حيث يقول:
"لست (أحاذر) إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء، فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلفى مدونا في كتاب، ولا مضمنا لباب. ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمها أقوام، أحلتها على أربابها [ ص: 6 ] وعزيتها إلى كتابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئا، بل ألاحظ وضع الشرع، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه. وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة" [3] .
ويكتسب الإمام الجويني وكتابه "الغياثي" أهمية خاصة بالنظر إلى الفترة الزمنية، التي عاش فيها الإمام وألف كتابه.
فقد عاش الإمام الجويني، إمام الحرمين، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجويني في القرن الخامس الهجري (419-478) [4] ، وكان هذا القرن يعاني من ضعف في السلطة السياسية ممثلة بالخليفة العباسي، وتسلط "البويهيين" على الخلافة. وظهرت في هذا القرن دولة "السلاجقة" الذين كانوا يشكلون قوة جهادية فتية، حاربت الروم في الأناضول، ونصرت الخلافة من تسلط "البويهيين".
وشهد الجويني تسلط "البويهيين" على الخلافة وإفسادهم ثم شهد القوة "السلجوقية" وسعى لدعمها وتأييدها.
وألف الجويني هذا الكتاب المسمى "غياث الأمم في التياث الظلم" وفاء بوعد قطعه للوزير نظام الملك السلجوقي، "ليقدم له أحكام الإمامة لتكون [ ص: 7 ] قدامه وأمامه فيما يأتي ويذر إمامه".
والهدف منه إنقاذ البشر مما يتردون فيه من مهاوي الظلم والجور، فكأنه يقول: هذا ما يغاث به البشر من التفاف الظلمات وتشابكها؛ ليكون هاديا عندما يخلو الزمان من إمام ومن مفت ومن حملة الشريعة وعلمائها.
والكتـاب من ثـلاثـة: أركـان الركن الأول في أحكام الإمـامـة، وفيـه بـاب في وظائف الدولة، تحت عنوان: "باب فيما يناط بالأئمة من الأحكام"، والركن الثاني: القول في خلو الزمان عن الإمام، والركن الثالث: القول في خلو الزمان عن المجتهدين.
و"الغياثي" من أوائل كتب السياسة الشرعية، التي أصلت لسبل تدبير الأمر بما يصلحه بما لا يخرج عن الكليات.. وفكرة الكتاب بيان الأحكام الفقهية في الأحوال الاستثنائية كفقد الإمام وغياب المجتهدين أو انعدام الشروط المطلوبة.
ويبرز الجويني في هذا الكتاب أصالة الفكر السياسي الإسلامي وإجابته عن أسئلة طرحها فلاسفة الفكر السياسي في تحديد وظائف الدولة وسبل تحقيق العدالة واقعا.. وتلحظ في إجابات الجويني تقديمه للحلول وفق رؤية قرآنية نقية بعيدة عن التأثر السلبي بالفلسفات السابقة والتقيد المذهبي، وهو يمثل نموذجا للإفتاء السياسي المنضبط بكليات الشريعة.
وفي الكتاب عدة معالجات سياسية توازن بين مصلحة أمن المجتمع وحفظ حقوق الإنسان، وناقش فيها أفكار من قبله وعاصره، سيما الماوردي في مسألة [ ص: 8 ] الحبس استبراء.
وقدم عدة معالجات سياسية في الإدارة، والفقه الدستوري، كمسألة الكافي ذي النجدة، والعدل الذي يتصدى لمهام الإمامة، رغم عدم توفر كل الشروط فيه، ومسألة الخروج على الحاكم الذي هو ملاذ الظالمين.
وعقد بابا بعنوان: "ما يناط بالأئمة من الأحكام"، أبرز فيه أهمية شهادة الشرع للتدابير السياسية، وكيف يمكن وضع التدابير لمعالجة المستجدات بالاستناد للكليات، ولو لم يرد في المسألة نص خاص، وظهر في الباب مستويات من التخطيط الاستراتيجي لوظائف الدولة والتخطيط على مستوى إدارة الأزمة في حال عجز الموازنة، وفي حال مواجهة أهل البدع.
ويظهر أثر هذه الأحداث في تنبيه الجويني لأهمية بناء ثقافة جامعة، ومحاربة أهل البدع قبل تجمعهم، والتحذير من مشاريعهم السياسية وخطرها على الدولة.
وقد وجدت أن المنهج المناسب لإجراء هذه الدراسة هو منهج السياسة الشرعية القائم على الأمور التالية:
- فهم النصوص الشرعية فهما مقاصديا، وفهم الجزئيات في ضوء الكليات.
- فهم العالم، استنادا للملاحظة والتأمل والإفادة من خبرات الأمم في تنظيم الشأن العام، وتقديم المعالجات السياسية المناسبة وفق ما قرر الجويني من [ ص: 9 ] استثارة الكليات فيما لا نص فيه.
فهو منهج يمتاز بأنه يجمع محاسن المنهج الاستقرائي، الذي قرره أرسطو بالاستناد إلى الملاحظة، بل يمتاز عليه باستناده للقيم الأخلاقية الموجهة، ممثلة بالمقاصد، وبهذا لا يقبل منهج السياسة الشرعية المعيار الكمي والإحصائي معيارا للصواب والخطأ، ولكنه لا يغفل في الوقت نفسه أهمية الإحصاء والاستقراء لحسن لتطبيق.
ويأتي هذا الكتاب في بابين وخاتمة.. الباب الأول بعنوان: "مدخل إلى الدولة"، عرضت فيه لجوانب في الفكر السياسي الإنساني، ابتداء من "أفلاطون" و"أرسطو"، مرورا بفلاسفة عصر النهضة الأوربية، وصولا إلى العصر الحديث.
وعرضت في الباب الثاني لـ "وظائف الدولة" مجليا الرؤية القرآنية لوظيفة الدولة، ثم وظيفة الدولة عند فقهاء المسلمين، كالغزالي والقرافي وابن تيمية، وتطور وظائف الدولة في الفكر الغربي القديم والحديث، ثم عرضت لمسوغ وجود الدولة في فكر الجويني والوظائف المنوطة بها. ومن ثم انتهى الكتاب بخاتمة.
أسأل الله أن يكتب له القبول وينفع به عباده.
[ ص: 10 ]