ثانيا: النظريات العلمية:
1- نظرية القوة:
خلاصة نظرية القوة: أن السلطة بما هي قدرة على التأثير تتأتى من امتلاك القوة، سواء كانت قوة اقتصادية أو قوة دينية. ومن شأن هذه القوة إحداث تغيير في مسوغ قبول المحكومين لمن يحكمهم، حيث تؤدي المفاهيم الدينية والتأثير الاقتصادي إلى نشوء مفاهيم اجتماعية جديدة وتأسيس لمعايير أخلاقية تسوغ حق الطاعة لجهة ما أو ترفض الطاعة لجهة ما [1] .
وقريبا من هـذا التفسـير نظرية التطـور التاريخـي، التي ترى أن من الدول ما كانت نشأتها وشرعيتها مستندة إلى روابط أسرية، ومنها ما استند إلى تفسير [ ص: 26 ] ديني مزعوم.
والذي يظهر للباحث أن نظرية القوة هي أدق النظريات العلمية لقيامها على أساس منطقي في ربط الأسباب بمسبباتها؛ وكشف العلاقة بين القوى الاقتصادية والدينية وبين إحداث تغيير في المفاهيم الاجتماعية بما يغير في أساس مسوغ قبول المحكومين لمن يحكمهم.
2- نظرية التطور العائلي:
تفترض هذه النظرية أن الفرد ينشأ في أسرة وتكون طاعته لوالده أمرا فطريا لا يحتاج إلى تبرير.. وفي الأسرة يتعلم فكرة النظام والطاعة، ومع تطور المجتمع اندمجت عدة أسر فنشأت من هذا الاندماج فكرة الدولة.
ونظرا لما استقر في الفطرة من احترام الصغير للكبير، فإن الكبار يمتلكون قدرة على التأثير تطورت مع الزمن إلى فكرة السلطة داخل الدولة.. وعليه، فإن شرعية السلطة تستند إلى الروابط الأسرية.
وفي هذه النظرية تفسير علمي لفكرة الطاعة والنظام المستمدة من الأسرة، إلا أنه يؤخذ على هذه النظرية أنه قد يوجد أفراد من عدة أسر داخل الدولة الواحدة، مما يجعل الاستناد لشرعية الترابط الأسري غير مقنعة لكافة المحكومين، مثلما قد ينتشر أفراد الأسر في أكثر من دولة، وهذا ما يجعل نظرية ابن خلدون، آتية الذكر، في تفسير الدولة أدق علميا، حيث انتهى إلى أن الترابط الأسري المعبر عنه بالعصبية يمكن جماعة داخل الدولة من أن تحكم الآخرين، وتستمر هذه الجماعة بالحكم باستمرار عصبيتها وترابطها بما يعطيها [ ص: 27 ] قوة تمكنها من الحكم.
3- نظرية العصبية: لتفسير نشأء الدولة عند ابن خلدون وابن الأزرق:
يعد كتاب "المقدمة" لابن خلدون، ومن بعده كتاب "بدائع السلك في طبائع الملك" لابن الأزرق
[2] ، من أوائل ما كتب في علم الاجتماع السياسي عند المسلمين، ويرى كل من ابن خلدون وابن الأزرق أن نشوء الدول يعتمد على القوة المادية المتحصلة غالبا من التكتل القبلي؛ بما يمكن قبيلة ما، يحملها دافع ذاتي للتناصر بين أفرادها، من فرض نفوذها على أفراد الجماعة، ثم يتحقق بعد ذلك إلف للطاعة، على أن تطور المجتمعات يستلزم تغييرا في مصادر شرعيتها.
وخلاصة رأي كل من ابن خلدون وابن الأزرق:
أ- إن قيام الدولة يعتمد أول الأمر على قوة اجتماعية تجمعها روابط القربى الحاملة على التناصر، بحيث تستطيع إحدى الجماعات أن تفرض نفوذها وهيمنتها على كافة القوى داخل الإقليم بقوة السيف والتغلب، ذلك [ ص: 28 ] أن "حصول الملك متوقف على التغلب بقهر من ينافس فيه، لشرف منصبه واشتماله على الملاذ البدنية والنفسانية، والتغلب من حيث هو كذلك متوقف على العصبية؛ لما فيها من النفرة الحاملة على التعاضد والتـناصر" [3] ، بمعنى أن روابط القرابة تحمل الناس على نحو فطري لنصرة قريبهم، ومن كان أكثر عددا، وكان أقاربه يبادرون لنصرته تتوفر لديه القوة المناسبة لقهر المخالف.. وتتمهد الدول أول الأمر بالسيف لما في طباع الخلق من استعصاء وصعوبة الانقياد.
ب- يخف اعتماد الدولة على القوة إذا ألف الناس الطاعة، واستقر الملك، وهذه المرحلة تعبر عن الشرعية القانونية حيث تدار الدولة بالقرارات الصادرة من القيادة ولا يفكر الناس بالتمرد على القوانين. ثم يؤدي هذا الإلف إلى استغناء الدولة عن القوة المعتمدة على العصبية، وتستغني عنها بالقوة المعتمدة على الصنائع، أي الجنود والموظفين، ولو لم يكونوا من أقارب الحاكم نسبا، وذلك لسببين:
الأول: عدم الحاجة للاعتماد على القوة العصبية بعد أن ألف الناس طاعة القانون.
الثاني: أن أبناء عم الملك ينافسونه في الملك لما يرونه في أنفسهم من تساو في سبب الاستحقاق. ومثال ذلك دولة بني العباس التي أقامت ملكها، أول الأمر، [ ص: 29 ] على العصبية، ثم لما فسدت عصبيتها أيام المعتصم استعانت بالموالي [4] .
ج- إن من آثار الملك الانغماس بالشهوة المؤدية إلى الترف، وضعف السيطرة بما يتيح المجال لأعوان الملك وأبناء عمومة الملك ممن لم يفسدهم الترف أن يفرضوا أنفسهم كقوة سياسية بديلة. وفي هذا يقول ابن خلدون: "فإذا انغمسوا في النعيم، وغرقوا في بحر الترف وأكل الدهر عليهم بما أرهف النعيم من حدهم كانت عصبية الآخرين موفورة - أي قوة من داخل عائلة الملك كأبناء عمه -فتسمو آمالهم إلى الملك الذي كانوا منه ممنوعين بالقوة… فيستولون على الأمر ويصير الأمر إليهم" [5] .. وهكذا ترث قوة قوة، فلا يزال الملك في هذه القبيلة إلا أن تنكسر سورة العصبية أو تفنى سائر عشائرها.
د- يستمر حال التداول على السلطة، داخل أفراد العشيرة، التي تحملها القرابة على التناصر، إلى أن يأذن الله بقيام ملة جديدة، فتغير من مفاهيم الزعامة، ومسوغ الطاعة جملة؛ بما يتيح المجال لقوى جديدة، ومن أقاليم أخرى أن تظهر في الساحة السياسية كما حدث لقبائل مضر من حكم المنطقة العربية، وإرث مناطق الروم وفارس بعد أن كانوا بعيدين عن شأن الملك.
ويتضح من التحليل السابق لتفسير نشوء الدول وزوالها عبر التاريخ أن [ ص: 30 ] استمرار الملك في الجماعة مرتبط ببقاء التناصر بينهم وابتعادهم عن الترف. وهذا ما يبين حاجة الدولة للدين لتحمي نفسها من الترف المفسد ومن التحاسد المؤدي للصراع، وبهذا يتضح لنا دور الآيات القرآنية التي نبهت إلى ولاية المسلم لأخيه المسلم في إيجاد التناصر فيما بينهم بما يؤهلهم لبناء دولة، ويحفظ وجود الدولة.
فمنطق القبيلة لا يمكن من استمرار الدولة وبقائها؛ لأنه يحمل في داخله بذور فنائها، وبدخول الدين للدولة فإنه يزيدها قوة على قوتها ويعالج أمراض النفوس من تحاسد وتباغض إلى حد ما.
وقد انتهى ابن خلدون إلى أن الدول الكبرى لا يمكن أن تقوم على أساس عصبية عرقية لعجزها عن تجميع الطاقات اللازمة للنهوض بالأعباء المطلوبة منها. كما رأى في الدين سببا جوهريا لقيام الدول الكبرى حيث يقول: إن الدول الكبرى لا تقوم إلا على أساس من الدين؛ ذلك أن اتفاق الأهواء على المطالبة إنما يكون بمعونة من الله تعالى في إقامة دينه؛ ثم إن الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة على قوة، وعصبيتها في الأصل لأمرين:
أحدهما: أن الصبغة الدينية تذهب بتحاسد ذوي العصبية وتحفز الدافعية إلى الحق.
الـثـاني: أن أعـداءهـم متـباينون في أغراضـهم متـنـاحـرون فـيـمـا بـيـنـهم [ ص: 31 ] فلا يقاومونهم، وإن كاثروهم قوة [6] : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى (الحشر:14).
على أن مما ينبغي الالتفات إليه أن أتباع الدين الواحد يمكن أن يتنافسوا فيما بينهم، وقد حدثت الصراعات عبر التاريخ بين أتباع دين واحد، بما يقتضي وجود مؤسسات تمثل الأمة لتصلح بينهم، وترد الباغي إلى أمر الله، وإن ما حدث من صراعات تاريخية بين الدول المسلمة كان يمكن تفاديه لو أن الأمة المسـلمة أقامت مؤسـسات تمثلها لترد الباغي إلى أمر الله. كما أن غياب هذه المؤسسة اليوم يحول دون منع حروب يحرض عليها أعداء الأمة ولا يستفيد منها إلا صناع السلاح وأعداء الأمة.
- تطور أشكال العصبية في الدولة في تفسير ابن خلدون:
من عصبية الدم إلى عصبية العقيدة الخاتمة:
بين ابن خلدون أن العصبية تتطور في مكوناتها، ففي المجتمعات البدائية تعتمد العصبية على رابطة الدم، إلا أن هذه الرابطة سرعان ما تنهار؛ لأن كل فرد من أفراد أسرة الحكم يرى نفسه مساويا للحاكم فيطمع بالحكم، ولهذا "كان أول ما يجدع الملك أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك" [7] .
ويـتطور الأمر إلى اقتتال أبناء العصبية الواحدة، الذين تجمعهم رابطة [ ص: 32 ] الدم، وعندها يستبدل بهم الملك (الموالي) كما حدث في عهد الدولة العباسية، الذين استعانوا بالبرامكة.. وتقوم عصبية المصلحة أو الولاء في مقابل العطاء، إلا أن هذه العصبية سرعان ما تنهار؛ إذ يطمح الموالي للحكم، أو يتحول الولاء لمن عطاؤه أفضل، وتفسد العصبية، فنحتاج إلى عصبية أوثق كعصبية القومية، لتجاوز القبلية الضيقة والطائفية، وهذه تفسد أيضا لعجزها عن دمج القوميات المتنوعة، فنحتاج إلى عصبية قوامها العقيدة الخاتمة، وهي القادرة على صهر الأعراق، والقوميات، والملل والنحل في داخلها، وفي داخل مفهوم الأمة، ومن هنا تجد أن "الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق" [8] .