السيادة في الدولة الحديثة:
- نشأة مفهوم السيادة في الفكر السياسي الغربي:
مفهوم السيادة استخدم باستعمالات متنوعة تطور فيها المفهوم من التعبير عن الاستقلال الذاتي للدولة وعدم خضوعها في قرارها لجهة أخرى فيما يمكن تسميته: "سيادة الدولة".. ولسيادة الدولة مظاهر خارجية ومظاهر داخلية.. كما استخدم المفهوم أيضا بمعنى المبادئ الحاكمة للنشاط التشريعي والسياسي داخل الدولة، فيما يمكن تسميته: "السيادة السياسية".
وعرف الفكر السياسي الأوروبي في القرن السابع عشر - القرن الثامن عشر، نقاشا فكريا حول مفهوم "السيادة السياسية"، حيث طرح مصطلح "سيادة" الأمة من قبل فلاسفة الحرية مثل "جون لوك" الإنجليزي (1704م) و"جان جاك روسو" الفرنسي (1778م) في مقابل المفهوم القديم لسيادة [ ص: 35 ] الملوك.. وأسـس لهذا المفهوم الجديد أول الأمر على أسـاس فكرة العقد الاجتماعي، التي نظر لها "لوك" و"روسو".
وكان هذا المفهوم يهدف إلى ربط شرعية الحكم باستناده إلى اختيار الأمة، عن طريق نوابه، والإقرار بحقوق للأمة على الحكام، كما يؤكد مفهوم "سيادة الأمة" على ضرورة التزام النواب إبان وضعهم للتشريعات بعدم التحيز ضد الأقليات داخل الدولة.
فبحسب نظرية "سيادة الأمة" لا يكفي أن يقر القانون بطرق ديمقراطية من قبل نواب منتخبين لتتحقق سيادة الأمة، بل لا بد أيضا أن يكون مضمون هذا القانون لا تمييز فيه ولا محاباة؛ ليكون بحق معبرا عن مصالح المجموع، و"إرادة المجموع".
فإذا كانت التشـريعات تتضمن تمييزا ضـد بعض الفئـات في المجتمع، فلا تعد سيادة الأمة متحققة، حتى ولو أقر القانون من قبل الأغلبية البرلمانية، أي بمجموع الإرادات الفردية، فروسو يفرق بوضوح بين "مجموع الإرادات" التي يمكن أن تتحقق بأغلبية برلمانية وبين "إرادة المجموع"، ومن الواضح أن "روسو" يدعو إلى وجود رقابة على الرقابة البرلمانية؛ لضمان الحريات العامة، فلا يكتفى بحصول القرار القانوني على الأغلبية العددية لتتحقق سيادة الأمة بل لا بد من وجود معايير موضوعية في القانون نفسه لتتحقق سيادة الأمة المنفصلة عن شخصية المشرعين أنفسهم.
ويفهم من كلام "روسو"، حول "إرادة المجموع"، أن السيادة بهذا المعنى [ ص: 36 ] تستلزم وجود قيم عليا مهيمنة على النشاط التشريعي داخل الدولة. ومن هذه القيم اجتناب التمييز العنصري والعرقي والطبقي، فلو أن الأغلبية البرلمانية أقرت قانونا فيه تمييز بحق أقلية يعد القانون غير ممثل لإرادة المجموع ولو حاز "مجموع الإرادات"!
وتزامن هذا الطرح الفكري من قبل فلاسفة الحرية مع صراع سياسي بين "البرجوازيين" خصوم الملك وبين "الأرستقراطيين" حلفاء الملك، وكان "البرجوازيون" من الأغنياء الجدد، ذوي الثروات التجارية، الساعين لتقييد سلطة الملك، بينما كان حلفاء الملك من "الأرستقراطيين" من أصحاب الثروات التقليدية المسـتندة للثروة الزراعية. ولقيت دعوة فلاسفة الحرية تأييدا من "البرجوازيين" مؤيدي الثورة الفرنسـية، التي استمرت من عام 1789م حتى 1799م.
وقـد اعتنقت الثورة الفرنسية هذه الفكرة وحـولتها إلى مبدأ دسـتـوري، إذ نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789م على أن الأمة هي مصـدر كل سـيـادة، ويـترتب على هـذا المبدأ أيـضـا أن يسـتـنـد الحـكـم إلى رضا الأمة.
ولكن عـند التطبيـق العـملي لمـبدأ سيـادة الأمـة من قـبل البرلمانات الثورية حصلت مظالم في حق من اتهموا بأنهم أعداء الثورة، وحرموا من حقوقهم بما دعا القانونيين لطرح مفهوم "سيادة الشعب" لمعالجة المظالم الواقعة على أعداء الثورة.
[ ص: 37 ] وهذه نقطة مهمة تدعو للتفكير الجدي لضمانات الحرية، ذلك أن مبدأ "سيادة الأمة" لم يستطع أن يحمي حرية الإنسان من الناحية العملية، فقد ارتكب السفاح "روبسبير" بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الجرائم والمذابح في ظل حكومة الجمعية النيابية في فرنسا، في حين كان شعار المساواة والإخاء والحرية أشبه بالشعارات المقدسة [1] !
وكان من آثار نظرية "سيادة الأمة" تبني النظام الديمقراطي غير المباشر، حيث يقوم أفراد الشعب بانتخاب ممثليهم، ويعد النواب ممثلين للأمة ككل وليس لحزبهم الذي انتخبهم، كما يعد القانون ممثلا للأمة بتجرده.
ثم ظهر مفهوم "سيادة الشعب" الذي يسمح بفكرة الاستفتاء الشعبي على التشريعات والقرارات المهمة بعد انتقادات لمبدأ "سـيادة الأمة "، وبموجب نظرية "سيادة الشعب" يمكن تبني نظريات الديمقراطية المباشرة بأن يلجأ للشعب بالاستفتاء، أو الديمقراطية غير المباشرة: بأن يختار الشعب نوابه، الذين يمثلونه
[2] .
ومن هنا، فإن دارسي التاريخ السياسي يؤكدون أهمية خضوع الهيئة التشريعية لقيم عليا تمثل تضامن المجتمع وتحفظ أسسه وهو ما نجده في الفقه [ ص: 38 ] الإسلامي، الذي يقيد اجتهادات الدولة بضرورة الاستناد إلى قواعد كلية وعدم التصادم مع النصوص القطعية.