ومن ثبت ذلك بقوله تعالى : { حكمه : وجوب المال به عند التراضي أو عند تعذر إيجاب القصاص للشبهة فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أي فمن أعطي له من دم أخيه شيء ; لأن العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو } ، والمراد به إذا فالمولى مندوب إلى مساعدته على ذلك ، وعلى القاتل أداؤه إليه بإحسان إذا ساعده الولي ، وهذه الدية تجب في مال القاتل إذا كان بطريق الصلح والتراضي فكأنه هو الذي التزمه بالعقد ، وأما إذا كان عند تعذر استيفاء القصاص فلأن في الدية الواجبة عليه معنى الزجر ، ومعنى الزجر إنما يتحقق فيما يكون أداؤه مجحفا به ، وهو الكثير من ماله ، ويختلفون في وجوب الدية بهذا الفصل عند وجوب القصاص به فالمذهب عندنا أنه لم تجب رغب القاتل في أداء الدية إلا أن يصالح الولي القاتل على الدية الدية بالعمد الموجب للقصاص رضي الله عنه فيه قولان في أحد القولين : موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى ، وفي القول الآخر : موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار أخذ الدية من غير رضا القاتل ، واحتج في ذلك بقوله : عليه الصلاة والسلام { وللشافعي } فهذا تنصيص [ ص: 61 ] على أن كل واحد منهما موجب القتل ، وأن الولي مخير بينهما { من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية } ففي هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو ، والقتل . ، ولما أتي بالقاتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام للولي أتعفو فقال : لا فقال أتأخذ الدية فقال : لا فقال القتل فقال نعم
والمعنى فيه أن هذا إتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كإتلاف سائر الحيوانات ، وقيمة النفس الدية ; وهذا لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال ، وإتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة ، وقيمة النفس الدية بدليل حالة الخطأ فإن الدية إنما تجب بالإتلاف لا بصفة الخطأ ; لأنه عذر مسقط ، والمتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ ، إلا أن الشرع أوجب القصاص بمعنى الانتقام وشفاء الصدر للولي ، ودفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس ; لأنه إتلاف ، والإتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الإتلاف وهو ليس بمثل .
( ألا ترى ) أن الجماعة يقتلون بالواحد ولا مماثلة بين العشرة والواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي ، وذلك في أن لا يسقط حقه في الواجب الأصلي بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو ناقصة بأصبع فإن القصاص واجب ، ولصاحب الحق أن يأخذ الأرش بغير رضا الجاني لهذا المعنى ; ولأن النفس محترمة بحرمتين ، وفي إتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة حق الله تعالى وحرمة حق صاحب النفس وجزاء حرمة الله العقوبة زجرا وجزاء هتك حرمة العبد الغرامة جبرا .
ولكن تعذر الجمع بينهما هاهنا ; لأن كل واحد منهما يوجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ويسقط بإذنه ، ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير ، وقلنا : إن شاء مال إلى جانب هتك حرمة حق الله تعالى واستوفى العقوبة ، وإن شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى الدية .