وتفسير العمد من وجهين : أحدهما : أنه عبارة عن فعل يترتب على قصد صحيح إليه ، وبالأبوة والملك لا ينعدم القصد الصحيح إلى الفعل ; وهذا لأن ضد العمد الخطأ فإذا كان الخطأ ما يكون عن غير قصد من الفاعل إليه بعينه عرفنا أن العمد ما يكون عن قصد ، وعلى هذا نقول : يجب ; لأن للصبي والمجنون قصدا صحيحا فكان فعلهما عمدا ، وللعمد تفسير آخر في القتل شرعا ، وهو أنه محظور محض ليس فيه الإباحة ; لأن المتعلق به شرعا العقوبة قال : عليه السلام { القصاص على شريك الصبي ، والمجنون } ، ولا تجب العقوبة إلا جزاء على فعل هو محظور محض ، وفعل الأب والمولى محظور محض ليس فيه شبهة الإباحة ; لأن في حق الأب قد انضم إلى ارتكاب الفعل المحرم معنى قطيعة الرحم . العمد قود
وفي حق المولى انضم إلى الفعل المحرم الإتيان بضد ما أمر به من الإحسان إلى المماليك ، والقتل لا يحل بملك الملكية بحال فلا يتمكن بسببه شبهة فيه بمنزلة من شرب خمر نفسه يلزمه الحد ; لأنه لا أثر للملك في إباحة شرب الخمر فلا يخرج الفعل باعتباره من أن يكون محظورا محضا ، وعلى هذا الطريق لا يجب القود على شريك الصبي ، والمعتوه ; لأن فعلهما لا يوصف بأنه محظور محض ، وفي الحقيقة الكلام ينبني على أن فعل الأب موجب لقود عنده ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر ; لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر .
والدليل على ذلك أن هو العمد ، وثبوت الحكم بثبوت السبب فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا ، وإنما لا يستوفى لكي لا يكون الولد سبب إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده ، وهذا في حقيقة الاستيفاء دون الوجوب فيثبت الوجوب حكما للسبب ثم يتعذر الاستيفاء ; لهذا المعنى فيسقط شرعا . سبب القود شرعا
والدليل عليه أن عندكم لا تجب الكفارة على الوالد ، ولو لم يكن الفعل موجبا للقود لوجبت الكفارة به ، وإن الأب لو قتل ابنه عمدا كان الولد شهيدا لا يغسل ، وإنما لا يغسل إذا كان القتل غير موجب للمال بنفسه ، وهذا بخلاف الخاطئ مع العامد ; لأن فعل الخاطئ غير موجب فاختلط الموجب بغير الموجب في المحل فيمكن الشبهة لاتحاد المحل [ ص: 95 ] يقرره : أن الخطأ معنى في الفعل .
( ألا ترى ) أنه يوصف الفعل به فيقال : قتل خطأ ، وقد اجتمع الفعلان في محل واحد ، فأما الأبوة فمعنى في الفاعل .
( ألا ترى ) أن الفاعل يوصف به فيقال أب قاتل فأحد الفاعلين متميز عن الآخر ، وحجتنا في ذلك أن هذا القتل ثم موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا ، وبيان الوصف أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير ، فإنه هو الذي يستوفى منه ، وإنما يراد بالوجوب الاستيفاء فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية .
والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص أن السبب لا ينعقد موجبا لحكمه إلا في محل صالح له ، وبعد صلاحية المحل لا يكون موجبا للحكم إلا باعتبار الأهلية فيمن يجب له ، وفيمن يجب عليه .
( ألا ترى ) أن الإتلاف كما لا يكون موجبا للضمان بدون محل صالح له ، وهو المال المتقوم لا يكون موجبا بدون الأهلية فيمن يجب له ، وفيمن يجب عليه حتى إن المسلم إذا أتلف مال مسلم لا أمان له أو الحربي إذا أتلف مال المسلم لا يجب الضمان ، والبيع كما لا ينعقد شرعا إلا في محل صالح لا ينعقد إلا بعد وجوب الأهلية فيمن يباشره .
إذا عرفنا هذا فنقول : العمد موجب للقود بشرط الأهلية فيمن يجب له وعليه وذلك لا يوجد في قتل الصبي ، والمجنون لانعدام الأهلية فيمن تجب عليه العقوبة ، ولا في قتل الأب لانعدام الأهلية فيمن تجب له على ما بينا أن الولد لا يكون من أهل أن يجب له القتل على والده ; لأن في الإيجاب استحقاق نفسه شرعا ، وإذا لم يكن هو أهلا لمباشرة إتلافه حقيقة بصفة الإباحة لا يكون أهلا لاستحقاق إتلافه شرعا ، فلا يكون فعله موجبا للقصاص لانعدام الأهلية ولهذا كان موجبا الدية المغلظة في ماله ; لأنه خرج من أن يكون موجبا للقود لانعدام الأهلية فيمن يجب له ، وذلك لا يوجد في الدية ، ولهذا لم يكن موجبا للكفارة ; لأن انعدام وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له الشبهة في أصل الفعل فلا يخرج من أن يكون محظورا ، وفي غسله روايتان في إحدى الروايتين عن يغسل ; لأن الغسل موجب للمال ، وفي الرواية الأخرى لا يغسل ; لأن امتناع وجوب القصاص لانعدام الأهلية فيمن تجب له وذلك لا يتعدى إلى حكم الغسل . أبي يوسف
فإن قيل : هذا ممنوع فإن الولد يرث القصاص على أبيه حتى يسقط وبدون الأهلية لا يجب الحق للوارث قلنا : هذا فاسد ; لأنه إنما لم يكن أهلا لإيجاب القود على الأب لما فيه من إتلافه حكما ، وهذا لا يوجد في الوارثة ; لأن الإتلاف الحكمي كان ثابتا قبل أن يرثه الولد بل في ثبوت الإرث للولد إحياء [ ص: 96 ] للأب حقيقة وحكما فإنه يسقط القود إذا ورثه الابن ، ولا يسقط إذا لم يرثه وهو نظير الولد في أنه لا يسترق والده ثم يشتري والده المملوك فيعتق عليه ، والدليل عليه أن الأبوة لو طرأت على قصاص موجب أسقطته ، وإذا اقترنت بالسبب دفعت الوجوب بطريق الأولى ; لأن تأثير الشيء في الحكم مقترنا بالسبب أقوى من تأثيره طارئا على السبب ، وإذا ثبت أن فعل الأب غير موجب عرفنا أنه اختلط الموجب بغير الموجب في المحل فكان كالخاطئ مع العامد بخلاف ما إذا عفا عن أحد القاتلين .
وقوله : الأبوة معنى في الفاعل لا معتبر به فإنه ، وإن كان في الفاعل فقد تعدى إلى الفعل حتى أخرجه من أن يكون موجبا فهو نظير الخطأ في الفاعل بأن رمى إلى إنسان يظنه كافرا ، وهو مسلم فإن الخطأ هاهنا باعتبار معنى في الفاعل ولكن لما تعدى إلى الفعل صار ذلك شبهة في حق شريكه في الفعل فكذلك هاهنا ، والدليل عليه أن مسلمين لو رميا إلى صيد أحدهما بسهم ، والآخر ببندقية لم يحل تناول الصيد ، وكذلك لو رمى مسلم ومجوسي إلى الصيد ، وفي أحد الموضعين الحرمة باعتبار معنى في الفعل وفي الموضع الآخر باعتبار معنى في الفاعل ، وهو كونه مجوسيا لكن لما تعدى إلى الفعل التحق بالمعنى الذي هو في الفعل في إيجاب الحرمة فهذا مثله .