قوله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم أجمعوا أنها من القرآن في سورة النمل، وإنما اختلفوا في فأثبتها إثباتها في فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة، الشافعي في طائفة، ونفاها أبو حنيفة في آخرين. واختلف في قوله: ( بسم ) : فذهب أبو عبيدة وطائفة إلى أنها صلة زائدة، وإنما هو الله الرحمن الرحيم، واستشهدوا بقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر اسم السلام زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما. واختلف من قال بهذا في معنى زيادته على قولين: أحدهما: لإجلال ذكره وتعظيمه، ليقع الفرق به بين ذكره وذكر غيره من المخلوقين، وهذا قول قطرب. والثاني: ليخرج به من حكم القسم إلى قصد التبرك، وهذا قول الأخفش. وذهب الجمهور إلى أن (بسم) أصل مقصود، واختلفوا في معنى دخول الباء عليه، فهل دخلت على معنى الأمر أو على معنى الخبر على قولين: [ ص: 48 ]
أحدهما: دخلت على معنى الأمر وتقديره: ابدؤوا بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قول الفراء. والثاني: على معنى الإخبار وتقديره: بدأت بسم الله الرحمن الرحيم وهذا قول الزجاج. وحذفت ألف الوصل، بالإلصاق في اللفظ والخط، لكثرة الاستعمال كما حذفت من الرحمن، ولم تحذف من الخط في قوله: اقرأ باسم ربك الذي خلق [العلق: آية 1] لقلة استعماله. الاسم: كلمة تدل على المسمى دلالة إشارة، والصفة كلمة تدل على الموصوف دلالة إفادة، فإن جعلت الصفة اسما، دلت على الأمرين: على الإشارة والإفادة. وزعم قوم أن الاسم ذات المسمى، واللفظ هو التسمية دون الاسم، وهذا فاسد، لأنه لو كان أسماء الذوات هي الذوات، لكان أسماء الأفعال هي الأفعال، وهذا ممتنع في الأفعال فامتنع في الذوات. واختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من السمة، وهي العلامة، لما في الاسم من تمييز المسمى، وهذا قول الفراء. والثاني: أنه مشتق من السمو، وهي الرفعة لأن الاسم يسمو بالمسمى [ ص: 49 ]
فيرفعه من غيره، وهذا قول الخليل والزجاج. وأنشد قول عمرو بن معدي كرب:
إذا لم تستطع أمرا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
وصله بالدعاء فكل أمر سما لك أو سموت له ولوع
وتكلف من راعى معاني الحروف ببسم الله تأويلا، أجرى عليه أحكام الحروف المعنوية، حتى صار مقصودا عند ذكر الله في كل تسمية، ولهم فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن الباء بهاؤه وبركته، وبره وبصيرته، والسين سناؤه وسموه وسيادته، والميم مجده ومملكته ومنه، وهذا قول الكلبي. [ ص: 50 ]
والثاني: أن الباء بريء من الأولاد، والسين سميع الأصوات والميم مجيب الدعوات، وهذا قول سليمان بن يسار. والثالث: أن الباء بارئ الخلق، والسين ساتر العيوب، والميم المنان، وهذا قول أبي روق. ولو أن هذا الاستنباط يحكى عمن يقتدى به في علم التفسير لرغب عن ذكره، لخروجه عما اختص الله تعالى به من أسمائه، لكن قاله متبوع فذكرته مع بعده حاكيا، لا محققا ليكون الكتاب جامعا لما قيل. ويقال لمن قال (بسم الله بسمل على لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
فأما قوله: (الله)، فهو أخص أسمائه به، لأنه لم يتسم باسمه الذي هو (الله) غيره.
والتأويل الثاني: أن معناه: هل تعلم له شبيها، وهذا أعم التأويلين، لأنه يتناول الاسم والفعل. وحكي عن أبي حنيفة أنه لأن غيره لا يشاركه فيه. واختلفوا في هذا الاسم هل هو اسم علم للذات أو اسم مشتق من صفة، على قولين: أحدهما: أنه اسم علم لذاته، غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يكن بد من أن يختص باسم ذات، يكون علما لتكون أسماء الصفات والنعوت تبعا. الاسم الأعظم من أسمائه تعالى،
والقول الثاني: أنه مشتق من أله، صار باشتقاقه عند حذف همزه، وتفخيم لفظه الله. واختلفوا فيما اشتق منه إله على قولين: أحدهما: أنه مشتق من الوله، لأن العباد يألهون إليه، أي يفزعون إليه في [ ص: 51 ]
أمورهم، فقيل للمألوه إليه: إله، كما قيل للمؤتم به: إمام. والقول الثاني: أنه مشتق من الألوهية، وهي العبادة، من قولهم: فلان يتأله، أي يتعبد، قال رؤبة بن العجاج
لله در الغانيات المده لما رأين خلق المموه
سبحن واسترجعن من تأله
أي من تعبد، وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ: ويذرك وآلهتك أي وعبادتك. ثم اختلفوا، على قولين: أحدهما: أنه مشتق من فعل العبادة، فعلى هذا، لا يكون ذلك صفة لازمة قديمة لذاته، لحدوث عبادته بعد خلق خلقه، ومن قال بهذا منع من أن يكون الله تعالى إلها لم يزل، لأنه قد كان قبل خلقه غير معبود. والقول الثاني: أنه مشتق من استحقاق العبادة، فعلى هذا يكون ذلك صفة لازمة لذاته، لأنه لم يزل مستحقا للعبادة، فلم يزل إلها، وهذا أصح القولين، لأنه لو كان مشتقا من فعل العبادة لا من استحقاقها، للزم تسمية هل اشتق اسم الإله من فعل العبادة، أو من استحقاقها، عيسى عليه السلام إلها، لعبادة النصارى له، وتسمية الأصنام آلهة، لعبادة أهلها لها، وفي بطلان هذا دليل على اشتقاقه من استحقاق العبادة، لا من فعلها، فصار قولنا: (إله على هذا القول صفة من صفات الذات، وعلى القول الأول من صفات الفعل. [ ص: 52 ]
وأما (الرحمن الرحيم)، فهما اسمان من أسماء الله تعالى، والرحيم فيها اسم مشتق من صفته. وأما الرحمن ففيه قولان: أحدهما: أنه اسم عبراني معرب، وليس بعربي، كالفسطاط رومي معرب، والإستبرق فارسي معرب، لأن قريشا وهم فطنة العرب وفصحاؤهم، لم يعرفوه حتى ذكر لهم، وقالوا ما حكاه الله تعالى عنهم: وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا [الفرقان: 60]، وهذا قول ثعلب واستشهد بقول جرير
أوتتركون إلى القسين هجرتكم ومسحكم صلبهم رحمن قربانا
قال: ولذلك جمع بين الرحمن والرحيم، ليزول الالتباس، فعلى هذا يكون الأصل فيه تقديم الرحيم على الرحمن لعربيته، لكن قدم الرحمن لمبالغته. والقول الثاني: أن الرحمن اسم عربي كالرحيم لامتزاج حروفهما، وقد ظهر ذلك في كلام العرب، وجاءت به أشعارهم، قال الشنفرى:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا ضرب الرحمن ربي يمينها
فإذا كانا اسمين عربيين فهما مشتقان من الرحمة، والرحمة هي النعمة على المحتاج، قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107]، يعني نعمة عليهم، وإنما سميت النعمة رحمة لحدوثها عن الرحمة. والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن يتعدى لفظه ومعناه، والرحيم [ ص: 53 ]
لا يتعدى لفظه، وإنما يتعدى معناه، ولذلك سمي قوم بالرحيم، ولم يتسم أحد بالرحمن، وكانت الجاهلية تسمي الله تعالى به وعليه بيت الشنفرى، ثم إن مسيلمة الكذاب تسمى بالرحمن، واقتطعه من أسماء الله تعالى، قال عطاء: فلذلك قرنه الله تعالى بالرحيم، لأن أحدا لم يتسم بالرحمن الرحيم ليفصل اسمه عن اسم غيره، فيكون الفرق في المبالغة، وفرق أبو عبيدة بينهما، فقال: بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم. واختلفوا في على قولين: أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدة، جعل لفظ الرحمن أشد مبالغة من الرحيم. والقول الثاني: أنهما مشتقان من رحمتين، والرحمة التي اشتق منها الرحمن، غير الرحمة التي اشتق منها الرحيم، ليصح امتياز الاسمين، وتغاير الصفتين، ومن قال بهذا القول اختلفوا في الرحمتين على ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرحمن مشتق من رحمة الله لجميع خلقه، والرحيم مشتق من رحمة الله لأهل طاعته. والقول الثاني: أن الرحمن مشتق من رحمة الله تعالى لأهل الدنيا والآخرة، والرحيم مشتق من رحمته لأهل الدنيا دون الآخرة. والقول الثالث: أن الرحمن مشتق من الرحمة التي يختص الله تعالى بها دون عباده، والرحيم مشتق من الرحمة التي يوجد في العباد مثلها. اشتقاق الرحمن والرحيم