واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى
[ ص: 115 ] الاستشهاد: طلب الشهادة، وعبر ببناء مبالغة في "شهيدين" دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه، فكأنها إشارة إلى العدالة.
وقوله تعالى: من رجالكم نص في رفض الكفار والصبيان والنساء وأما العبيد فاللفظ يتناولهم، واختلف العلماء فيهم - فقال شريح: وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل: جائزة إذا كان عدلا، وغلبوا لفظ الآية، وقال شهادة العبد مالك، والشافعي، وجمهور العلماء: لا تجوز شهادة العبد، وغلبوا نقص الرق. وأبو حنيفة،
واسم كان الضمير الذي في قوله: "يكونا"،
والمعنى في قول الجمهور: فإن لم يكن المستشهد رجلين، أي إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، وقال قوم: بل المعنى: فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا قول ضعيف، ولفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه قول الجمهور.
وقوله: فرجل وامرأتان ، مرتفع بأحد ثلاثة أشياء: إما أن تقدر: فليستشهد رجل وامرأتان، وإما: فليكن رجل وامرأتان، ويصح أن تكون هذه تامة وناقصة، ولكن [ ص: 116 ] التامة أشبه، لأنه يقل الإضمار، وإما: فرجل وامرأتان يشهدون - وعلى كل وجه فالمقدر هو العامل في قوله: أن تضل إحداهما .
وروى حميد بن عبد الرحمن عن بعض أهل مكة أنهم قرؤوا: "وامرأتان" بهمز الألف ساكنة، قال لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة على غير قياس، إنما خففوا الهمزة فقربت من الساكن، ثم بالغوا في ذلك فصارت الهمزة ألفا ساكنة، كما قال الشاعر: ابن جني:
يقولون جهلا: ليس للشيخ عيل ... لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
يريد: وأنا - ثم بعد ذلك يدخلون الهمزة على هذه الألف كما هي، وهي ساكنة، ومنه قراءة "عن سأقيها"، وقولهم: بأز، وخأتم، قال ابن كثير: أبو الفتح: فإن قيل: شبهت الهمزة بالألف في أنها ساوتها في الجهر والزيادة والبدل والحذف وقرب المخرج فقول مخشوب لا صنعة فيه ولا يكاد يقنع بمثله.
وقوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء رفع في موضع الصفة لقوله عز وجل: فرجل وامرأتان ، قال ولا يدخل في هذه الصفة قوله: "شهيدين" لاختلاف الإعراب، وهذا حكم لفظي، وأما المعنى فالرضى شرط في الشهيدين كما هو في الرجل والمرأتين. أبو علي:
[ ص: 117 ] قال ابن بكير وغيره: قوله: ممن ترضون مخاطبة للحكام، وهذا غير نبيل إنما الخطاب لجميع الناس لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض. وفي قوله: ممن ترضون دليل على أن في الشهود من لا يرضى فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم.
وقرأ وحده: "إن تضل" بكسر الألف وفتح التاء وكسر الضاد "فتذكر" بفتح الذال ورفع الراء، وهي قراءة حمزة وقرأها الباقون: "أن تضل" بفتح الألف "فتذكر" بنصب الراء غير أن الأعمش، ابن كثير وأبا عمرو خففا الذال والكاف وشددها الباقون.
وقد تقدم القول فيما هو العامل في قوله: أن تضل و"أن" مفعول من أجله، والشهادة لم تقع لأن تضل إحداهما وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت الأخرى، قال وهذا كما تقول: أعددت هذه الخشبة أن يميل هذا الحائط فأدعمه. سيبويه،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث قدم في هذه الآية ذكر [ ص: 118 ] سبب الأمر المقصود أن يخبر به، وفي ذلك سبق النفوس إلى الإعلام بمرادها، وهذا من أبرع أنواع الفصاحة، إذ لو قال رجل لك: أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها هذا الحائط لقال السامع: ولم تدعم حائطا قائما؟ فيجب ذكر السبب فيقال: إذا مال. فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه المحاورة. وقال معنى "تضل": تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها، وذكر جزء، ويبقى المرء بين ذلك حيران ضالا، ومن نسي الشهادة جملة فليس يقال: ضل فيها، فأما قراءة أبو عبيد: فجعل "أن" للجزاء، والفاء في قوله: فتذكر جواب الجزاء، وموضع الشرط وجوابه رفع بكونه صفة للمذكور وهما المرأتان. وارتفع "تذكر" كما ارتفع قوله تعالى: حمزة ومن عاد فينتقم الله منه هذا قول وفي هذا نظر. وأما نصب قوله: "فتذكر" على قراءة الجماعة فعلى العطف على الفعل المنصوب بـ "أن". سيبويه،
وتخفيف الكاف على قراءة أبي عمرو، هو بمعنى تثقيله من الذكر، يقال: ذكر وأذكر تعديه بالتضعيف أو بالهمز. وروي عن وابن كثير أبي عمرو بن العلاء، أنهما قالا: معنى قوله: "فتذكر" بتخفيف الكاف أي تردها ذكرا في الشهادة، لأن شهادة امرأة [ ص: 119 ] نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموعهما كشهادة ذكر، وهذا تأويل بعيد غير فصيح، ولا يحسن في مقابلة الضلال إلا الذكر - وذكرت بشد الكاف يتعدى إلى مفعولين، و"أحدهما" في الآية محذوف، تقديره: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي ضلت عنها. وقرأ وسفيان بن عيينة الجحدري "أن تضل" بضم التاء وفتح الضاد بمعنى أن تنسى، هكذا حكى عنهما وعيسى بن عمر: وحكى أبو عمرو الداني، عن النقاش الجحدري ضم التاء وكسر الضاد بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس والبعير إذا تلفا لك وذهبا فلم تجدهما، وقرأ حميد بن عبد الرحمن "فتذكر" بتخفيف الكاف المكسورة ورفع الراء، وتضمنت هذه الآية ومجاهد واختلف قول مالك في شهادتهما - فروى عنه جواز شهادة امرأتين بشرط اقترانهما برجل، أن ابن وهب لا تجوز إلا حيث ذكرها الله في الدين، أو فيما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك، وروى عنه شهادة النساء ابن القاسم أنها تجوز في الأموال، والوكالات على الأموال، وكل ما جر إلى مال، وخالف في ذلك وغيره. أشهب
وكذلك إذا شهدن على ما يؤدي إلى غير مال - ففيها قولان في المذهب.