ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
كان أصل النون أن تكسر لالتقاء، لكنها تفتح مع الألف واللام، ومن قال استثقلت كسرتان تتوالى في كلمة على حرفين فمعترض بقولهم: من ابنك ومن اسمك وما أشبهه، واختلف النحويون في لفظة "الناس"، فقال قوم: هي من نسي، فأصل ناس نسي قلب فجاء نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فقيل: ناس، ثم دخلت الألف واللام، وقال آخرون: ناس اسم من أسماء الجموع دون هذا التعليل دخلت عليه الألف واللام. وقال آخرون: أصل ناس أناس، دخلت الألف واللام في الأناس حذفت الهمزة فجاء الناس، أدغمت اللام في النون لقرب المخارج.
وهذه الآية نزلت في المنافقين.
وقوله تعالى: من يقول آمنا بالله رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ "من" ومعناها، وحسن ذلك، لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن [ ص: 116 ] يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحيد، لو قلت: "ومن الناس من يقومون ويتكلم" لم يجز. ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل، ثم وسمى الله تعالى يوم القيامة اليوم الآخر لأنه لا ليل بعده، وفي ذلك رد على نفى تعالى الإيمان عن المنافقين، الكرامية في قولهم: "إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب".
واختلف المتأولون في قوله تعالى: يخادعون الله ، فقال : المعنى يخادعون رسول الله، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله والمؤمنون لهم أسرارهم فيتحفظون بما يكرهونه، ويتنبهون من ضرر المؤمنين على ما يحبونه. وقال جماعة من المتأولين: بل يخادعون الله والمؤمنين، وذلك بأن يظهروا من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر، ليحقنوا دماءهم، ويحرزوا أموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا وفازوا، وإنما خدعوا أنفسهم، لحصولهم في العذاب، وما شعروا لذلك. الحسن بن أبي الحسن
واختلف القراء في "يخادعون" الثاني، فقرأ ، ابن كثير ، ونافع "يخادعون"، وقرأ وأبو عمرو ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة "وما يخدعون"، وقرأ والكسائي أبو طالوت عبد السلام بن شداد ، والجارود بن أبي سبرة "يخدعون" بضم الياء، وقرأ ، قتادة ومورق العجلي "يخدعون" بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال وشدها، فوجه قراءة ومن ذكر إحراز تناسب اللفظ، وأن يسمى الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له، ويجيء ذلك كما قال الشاعر: ابن كثير
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
[ ص: 117 ] فجعل انتصاره جهلا، ويؤيد هذا المنزع في هذه الآية أن "فاعل" قد تجيء من واحد، كعاقبت اللص وطارقت النعل. وتتجه أيضا هذه القراءة بأن ينزل ما يخطر ببالهم، ويهجس في خواطرهم، من الدخول في الدين، والنفاق فيه، والكفر في الأمر وضده في هذا المعنى بمنزلة محاورة أجنبيين، فيكون الفعل كأنه من اثنين، وقد قال الشاعر:تذكر من أنى ومن أين شربه يؤامر نفسيه كذي الهجمة الآبل
لم تدر ما لا ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا فيها وفي أختها ولم تكد
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيسترجع الذوبان أم لا يطورها؟
وكنت كذات الضنيء لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني؟
[ ص: 118 ] ووجه قراءة أبي طالوت أحد أمرين: إما أن يقدر الكلام وما يخدعون إلا عن أنفسهم، فحذف حرف الجر ووصل الفعل. كما قال تعالى: واختار موسى قومه أي: من قومه، وإما أن يكون "يخدعون" أعمل عمل ينتقصون لما كان المعنى: وما ينقضون ويستلبون إلا أنفسهم، ونحوه قول الله تعالى: ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ولا تقول: رفثت إلى المرأة، ولكن لما كان بمعنى الإفضاء ساغ ذلك. ومنه قوله تعالى: هل لك إلى أن تزكى وإنما يقال: هل لك في كذا، ولكن لما كان المعنى: أجذبك إلى أن تزكى ساغ ذلك وحسن، وهو باب سني من فصاحة الكلام. ومنه قول : الفرزدق
كيف تراني قالبا مجني قد قتل الله زيادا عني
إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
[ ص: 119 ] ووجه قراءة المبالغة في الخدع، إذ هو مصير إلى عذاب الله. قتادة
قال : يقال: خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة، كما يقال: عالجت المريض لمكان المهلة. الخليل
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا من دقيق نظره، وكأنه يرد فاعل إلى الاثنين ولا بد من حيث ما فيه مهلة ومدافعة ومماطلة، فكأنه يقاوم في المعنى الذي تجيء فيه فاعل.
وقوله تعالى: وما يشعرون معناه: وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من الشعار كأن الشيء المتفطن له شعار للنفس، والشعار: الثوب الذي يلي جسد الإنسان، وهو مأخوذ من الشعر، والشاعر المتفطن لغريب المعاني، وقولهم ليت شعري معناه: ليت فطنتي تدرك، ومن هذا المعنى، قول الشاعر:
عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ثم استفاؤوا وقالوا: حبذا الوضح