ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا
"كل" إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر، فهي بمثابة: "قبل وبعد" ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل- على حد "قبل وبعد"، فالمقدر هنا على قول فرقة: ولكل أحد - وعلى قول فرقة: ولكل شيء، يعني: التركة.
والمولى -في كلام العرب- لفظة يشترك فيها: القريب القرابة، والصديق، والحليف، والمعتق، والمعتق، والوارث، والعبد فيما حكى ويحسن هنا من هذا الاشتراك: الورثة، لأنها تصلح على تأويل: ولكل أحد ، وعلى تأويل: ولكل شيء، وبذلك فسر ابن سيده، قتادة والسدي، وغيرهم: أن "الموالي": العصبة والورثة. قال وابن عباس لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيها، وذلك في قول الله تعالى: ابن زيد: فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم .
[ ص: 538 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد سمي قوم من العجم ببني العم. و"مما" متعلقة بشيء ، تقديره: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة، وهي متعلقة، على تأويل: ولكل أحد بفعل مضمر تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، ويحتمل -على هذا- أن تتعلق "من" بـ "موالي". وقوله: "والذين" رفع بالابتداء، والخبر في قوله "فآتوهم".
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، "عاقدت" على المفاعلة، أي: أيمان هؤلاء عاقدت أولئك، وقرأ وابن عامر: عاصم، وحمزة، "عقدت" بتخفيف القاف على حذف مفعول تقديره: عقدت أيمانكم حلفهم أو ذمتهم، وقرأ والكسائي: في رواية حمزة، علي بن كبشة عنه-: "عقدت" مشددة القاف.
واختلف المتأولون في من المراد بـ "والذين"ـ فقال الحسن، وابن عباس، وابن جبير، وغيرهم: هم الأحلاف، فإن وقتادة، العرب كانت تتوارث بالحلف، فشدد الله ذلك بهذه الآية، ثم نسخه بآية الأنفال وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وقال أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وورد أن لابن عباس المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فنزلت الآية في ذلك ناسخة، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة أو من المال على جهة الندب في الوصية.
وقال هم الأبناء الذين كانوا يتبنون، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث. سعيد بن المسيب:
وقال أيضا: هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق، والنصر، والوفاء بالحلف، لا الميراث. ابن عباس
[ ص: 539 ] وروي عن أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها، فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له. الحسن
ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد: الأحلاف، لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان.
و"شهيدا" معناه: أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة.
وقوله تعالى: "الرجال قوامون" الآية، قوام فعال، بناء مبالغة، وهو من القيام على الشيء، والاستبداد بالنظر فيه، وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجل على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما.
قال الرجال أمراء على النساء، وعلى هذا قال أهل التأويل، و "ما" في قوله: ابن عباس: بما فضل الله مصدرية، ولذلك استغنت عن العائد، وكذلك: "وبما أنفقوا"، والفضيلة: هي الغزو، وكمال الدين، والعقل، وما أشبهه، والإنفاق: هو المهر، والنفقة المستمرة على الزوجات.
[ ص: 540 ] وقيل: سبب هذه الآية لطم زوجه سعد بن الربيع حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فجاءت مع أبيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن تلطمه كما لطمها، فنزلت الآية مبيحة للرجال تأديب نسائهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقض الحكم الأول وقال: "أردت شيئا، وما أراد الله خير"، وفي طريق آخر: "أردت شيئا وأراد الله غيره"، وقيل: إن في هذا الحكم المردود نزلت: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقيل: سببها قول أن المتقدم، أي: لما تمنى النساء درجة الرجال عرفن وجه الفضيلة. أم سلمة
والصلاح في قوله: "فالصالحات" هو الصلاح في الدين. و "قانتات" معناه: مطيعات، والقنوت: الطاعة، ومعناه: لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، وغير ذلك. وقال إنها الصلاة، وهذا هنا بعيد. الزجاج:
"وللغيب" معناه: كل ما غاب عن علم زوجها مما استرعته، وذلك يعم حال غيب الزوج وحال حضوره، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو هريرة "خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وفي مصحف "فالصوالح قوانت حوافظ"، وهذا بناء يختص [ ص: 541 ] بالمؤنث، وقال ابن مسعود: "والتكسير أشبه لفظا بالمعنى، إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هنا". ابن جني:
و"بما حفظ الله"، الجمهور على رفع اسم الله بإسناد الفعل إليه، وقرأ "الله" بالنصب على إعمال: "حفظ"، فأما قراءة الرفع فـ "ما" مصدرية تقديره: يحفظ الله، ويصح أن تكون بمعنى "الذي" ويكون العائد الذي في "حفظ" ضمير نصب، ويكون المعنى إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها حفظه، فمعناه: أن النساء يحفظن بإرادته وقدرته، وأما قراءة أبو جعفر بن القعقاع: "بما حفظ الله" فالأولى أن تكون "ما" بمعنى "الذي"، وفي "حفظ" ضمير مرفوع، والمعنى: حافظات للغيب بطاعة وخوف وبر ودين حفظن الله في أوامره حين امتثلنها. وقيل: يصح أن تكون "ما" مصدرية، على أن تقدير الكلام: بما حفظن الله، وينحذف الضمير، وفي حذفه قبح لا يجوز إلا في الشعر كما قال : ابن القعقاع
. . . .. . . . . . .. فإن الحوادث أودى بها
يريد أودين، والمعنى: يحفظن الله في أمره حين امتثلنه، وقال الكلام على حذف مضاف تقديره: بما حفظ دين الله، أو أمر الله. وفي مصحف ابن جني: "بما حفظ الله فأصلحوا إليهن" . ابن مسعود:
"واللاتي" في موضع رفع بالابتداء، والخبر "فعظوهن"، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مضمر تقديره: وعظوا اللاتي تخافون نشوزهن، كقوله: "والسارق والسارقة" على قراءة من قرأها بالنصب، قال النصب القياس، إلا أن الرفع أكثر في كلامهم، وحكي عن سيبويه: أن تقدير الآية عنده: وفيما يتلى عليكم اللاتي. سيبويه
قالت فرقة: معنى "تخافون": تعلمون وتتيقنون، وذهبوا في ذلك إلى أن وقوع النشوز هو الذي يوجب الوعظ، واحتجوا في جواز وقوع الخوف بمعنى اليقين بقول أبي محجن:
[ ص: 542 ]
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقالت فرقة: الخوف هاهنا- على بابه في التوقع، لأن الوعظ وما بعده إنما هو في دوام ما ظهر من مبادئ ما يتخوف.
"والنشوز": أن تتعوج المرأة، وترتفع في خلقها، وتستعلي على زوجها وهو من نشز الأرض، يقال: ناشز، وناشص، ومنه بيت الأعشى:
تجللها شيخ عشاء فأصبحت قضاعية تأتي الكواهن ناشصا
و"فعظوهن" معناه: ذكروهن أمر الله، واستدعوهن إلى ما يجب عليهن بكتاب الله وسنة نبيه، وقرأ "في المضجع" ، وهو واحد يدل على الجمع. إبراهيم النخعي:
واختلف المتأولون في قوله: "اهجروهن"، فقالت فرقة: معناه: جنبوا جماعهن، وجعلوا "في" للوعاء على بابها دون حذف، قال يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقال ابن عباس: جنبوا مضاجعتهن، فيتقدر على هذا القول حذف تقديره: واهجروهن برفض المضاجع، أو بترك المضاجع. وقال مجاهد: هي هجرة الكلام، أي: لا تكلموهن، وأعرضوا عنهن، فيقدر حذف تقديره: [ ص: 543 ] واهجروهن في سبب المضاجع حتى يراجعنها، وقال سعيد بن جبير: أيضا: ابن عباس
معناه: وقولوا لهن هجرا من القول، أي: إغلاظا، حتى يراجعن المضاجع، وهذا لا يصح تصريفه إلا على من حكى: هجر وأهجر بمعنى واحد.
وقال معناه: اربطوهن بالهجار كما يربط البعير به، وهو حبل يشد به البعير، فهي في معنى: اضربوهن ونحوها، ورجح الطبري: منزعه هذا، وقدح في سائر الأقوال، وفي كلامه كله في هذا الموضع نظر. الطبري
والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح وهو الذي لا يكسر عظما، ولا يشين جارحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال "اضربوا النساء إذا عصينكم في معروف ضربا غير مبرح"، قلت عطاء: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالشراك ونحوه، وروي عن لابن عباس: أنه قال: لا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في النفس. ابن شهاب
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا تجاوز، قال غيره: إلا في النفس والجراح، وهذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند إحداها لم يتعد إلى سائرها.
و"تبغوا" معناه: تطلبوا، و"سبيلا" أي: إلى الأذى، وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن بغير واجب بعد تقدير الفضل عليهن، والتمكين من أدبهن، وحسن معه الاتصاف بالعلو والكبر، أي: قدره فوق كل قدر، ويده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد على امرأته، فالله بالمرصاد، وينظر هذا إلى [ ص: 544 ] حديث ابن مسعود: أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد". فصرفت وجهي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اعلم