أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير
[ ص: 137 ] "أو" للتخيير، معناه: مثلوهم بهذا، أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين. وقوله: أو كصيب معطوف على كمثل الذي وقال : "أو" بمعنى "الواو". الطبري
[ ص: 138 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه عجمة. و"الصيب" المطر، من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل، ومنه قول علقمة بن عبدة :
كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
وقول الآخر:فلست لإنسي ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب
ومنه قول قيس بن الخطيم :
فما روضة من رياض القطا كأن المصابيح حوذانها
بأحسن منها، ولا مزنة دلوح تكشف أدجانها
[ ص: 139 ] واختلف العلماء في "الرعد"، فقال ، ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع، كلما خالفت سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه فهي الصواعق، واسم هذا الملك: الرعد، وقيل: الرعد ملك وهذا الصوت تسبيحه، وقيل: الرعد اسم الصوت المسموع، قاله وشهر بن حوشب رضي الله عنه، وهذا هو المعلوم في لغة علي بن أبي طالب العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته:
فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد
واختلفوا في "البرق"، فقال رضي الله عنه: هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب. وقال علي بن أبي طالب : هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه: أن البرق ملك يتراءى. وقال قوم: البرق ماء، وهذا قول ضعيف. ابن عباس
والصاعقة: قال : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار، يقال: إنها من المخراق الذي بيد الملك، وقيل في قطعة النار: إنها ما يخرج من فم الملك عند غضبه. الخليل
[ ص: 140 ] وحكى عن قوم من الخليل العرب : الساعقة بالسين. وقال : يقال: صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد، وقرأ النقاش : "من الصواقع" بتقديم القاف. قال الحسن بن أبي الحسن : وهي لغة أبو عمرو تميم . وقرأ : "حذار الموت" بكسر الحاء وبألف. الضحاك بن مزاحم
واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل، وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات، والرعد، والبرق، والصواعق. فقال جمهور المفسرين: مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم، والعمى: هو الظلمات وما فيه من الوعيد، والزجر: هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم واشتهار كفرهم وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا كله صحيح بين. وروي عن أنه قال: ابن مسعود إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، وأيقنا بالهلك فقالا: ليتنا أصبحنا فنأتي محمدا، ونضع أيدينا في يده، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما، فضرب الله ما نزل بهما مثلا للمنافقين . وقال أيضا : إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن ، فضرب الله المثل لهم، وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه. ابن مسعود
وقال قوم: الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ووعيده.
و محيط بالكافرين معناه: بعقابه وأخذه، يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة. ومنه قوله تعالى: وأحيط بثمره ، ففي الكلام حذف مضاف، و"يكاد" فعل ينفي المعنى مع إيجابه، ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخطف الانتزاع بسرعة. واختلفت القراءة في هذه اللفظة، فقرأ جمهور [ ص: 141 ] الناس: "يخطف أبصارهم" بفتح الياء والطاء وسكون الخاء على قولهم في الماضي خطف بكسر الطاء، وهي أفصح لغات العرب ، وهي قرشية. وقرأ ، علي بن الحسين : "يخطف" بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء على قول بعض ويحيى بن وثاب العرب في الماضي "خطف" بفتح الطاء. ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن ، وذلك وهم. وقرأ وأبي رجاء ، الحسن ، وأبو رجاء وعاصم الجحدري ، : يخطف" بفتح الياء وكسر الخاء والطاء وتشديد الطاء، وهذه أصلها "يختطف" أدغمت التاء في الطاء وكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وحكى وقتادة قراءة لم ينسبها إلى أحد "يخطف" بفتح الياء والخاء وتشديد الطاء المكسورة، قال ابن مجاهد أبو الفتح : أصلها "يختطف"، نقلت حركة التاء إلى الخاء، وأدغمت التاء في الطاء. وحكى عن أبو عمرو الداني أيضا أنه قرأ: "يخطف" بفتح الياء والخاء والطاء وشدها، وروي أيضا عن الحسن الحسن بكسر الثلاثة وشد الطاء منها، وهذه أيضا أصلها يختطف. أدغم وكسرت الخاء للالتقاء، وكسرت الياء إتباعا. وقال والأعمش عبد الوارث : رأيتها في مصحف "يتخطف" بالتاء بين الياء والخاء، وقال أبي بن كعب : قرأ بعض أهل الفراء المدينة بفتح الياء وسكون الخاء وشد الطاء مكسورة، قال أبو الفتح : إنما هو اختلاس وإخفاء فيلطف عندهم فيرون أنه إدغام، وذلك لا يجوز لأنه جمع بين ساكنين دون عذر، وحكى قراءة عن بعض الناس بضم الياء وفتح الخاء وشد الطاء مكسورة كأنه تشديد مبالغة لا تشديد تعدية. ومعنى: الفراء يكاد البرق يخطف أبصارهم : تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم. ومن جعل البرق في المثل الزجر والوعيد، قال: يكاد ذلك يصيبهم، و"كلما" ظرف والعامل فيه "مشوا"، وهو أيضا جواب "كلما"، و"أضاء" صلة "ما"، ومن جعل "أضاء" يتعدى، قدر له مفعولا، ومن جعله بمنزلة "ضاء" استغنى عن ذلك، وقرأ : "أضا لهم" بغير همز، وهي لغة. وفي مصحف ابن أبي عبلة : "مروا فيه"، وفي قراءة أبي بن كعب : "مضوا فيه"، وقرأ [ ص: 142 ] ابن مسعود : "وإذا أظلم" بضم الهمزة وكسر اللام. و"قاموا" معناه: ثبتوا; لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي: الضحاك
وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره
ومعنى الآية فيما روي عن وغيره: كلما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحجج، أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه، قاموا أي ثبتوا على نفاقهم. وروي عن ابن عباس أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا: دين ابن مسعود محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوه وثبتوا في نفاقهم.
وقال قوم: معنى الآية: كلما خفي عليكم نفاقهم، وظهر لكم منهم الإيمان مشوا فيه، فإذا افتضحوا عندكم قاموا. ووحد السمع لأنه مصدر، يقع للواحد والجمع. وحكى أن من العلماء من قرأ: "بأسماعهم". وقرأ النقاش : "ولو شاء الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم"، وخص الأسماع والأبصار لتقدم ذكرها في الآية، ويشبه هذا المعنى في حال المنافقين أن الله لو شاء لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد، أو لفضحهم عند المؤمنين، وسلط المؤمنين عليهم، وبكل مذهب من هذين قال قوم. وقوله تعالى: إبراهيم بن أبي عبلة على كل شيء قدير لفظه العموم، ومعناه عند المتكلمين: على كل شيء يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، و"قدير" بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا صفته التي هي القدرة بالذكر; لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك.