يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت - رضي الله عنها - فيها نزلت آية التيمم؛ وهي آية الوضوء؛ لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم؛ مستعملا؛ فكأن [ ص: 113 ] الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته؛ وإنما أعطتهم الفائدة؛ والرخصة في التيمم؛ واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة - رضي الله عنها -: عائشة وآية النساء إما نزلت معها؛ أو بعدها بيسير؛ وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - في غزوة المريسيع؛ وهي غزوة "فأقام رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - بالناس؛ وليسوا على ماء؛ وليس معهم ماء"؛ بني المصطلق؛ وفيها كان هبوب الريح؛ فيما روي؛ وفيها كان قول عبد الله بن أبي بن سلول: "لئن رجعنا إلى المدينة"؛ القصة بطولها؛ وفيها وقع حديث الإفك.
ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام؛ جاءت العبارة: "إذا قمتم".
واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله: "إذا قمتم"؛ فقالت طائفة: "هذا لفظ عام في كل قيام؛ سواء كان المرء على طهور؛ أو محدثا؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ"؛ وروي أن - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك؛ ويقرأ الآية؛ وروي نحوه عن علي بن أبي طالب ؛ وقال عكرمة : "كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة؛ وروي أن ابن سيرين - رضي الله عنه - توضأ وضوءا فيه تجوز؛ ثم قال: "هذا وضوء من لم يحدث"؛ وقال عمر بن الخطاب عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أمر بالوضوء عند كل صلاة؛ فشق ذلك عليه؛ فأمر بالسواك؛ ورفع عنه الوضوء؛ إلا من حدث.
[ ص: 114 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكان كثير من الصحابة - منهم ؛ وغيره؛ يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة؛ وكذلك كان رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - يفعل؛ ثم ابن عمر في حديث جمع بين صلاتين بوضوء واحد؛ سويد بن النعمان؛ وفي غير موطن؛ إلى أن إرادة البيان لأمته؛ وروى جمع - صلى اللـه عليه وسلم - يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد؛ أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال: ابن عمر "من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات"؛ وقال: "إنما رغبت في هذا".
وقالت فرقة: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء؛ ولا يكلم أحدا؛ ولا يرد سلاما؛ إلى غير ذلك؛ فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط؛ دون سائر الأعمال؛ قال ذلك علقمة بن الفغواء؛ وهو من الصحابة؛ وكان دليل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - إلى "تبوك"؛ وقال ؛ زيد بن أسلم : معنى الآية: "إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع"؛ يعني النوم. والسدي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر؛ ولا سيما النوم؛ الذي هو مختلف فيه: هل هو في نفسه حدث؟ وفي الآية على هذا التأويل تقديم؛ وتأخير؛ تقديره: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم؛ أو جاء أحد منكم من الغائط؛ أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا"؛ فتمت أحكام المحدث حدثا [ ص: 115 ] أصغر؛ ثم قال: وإن كنتم جنبا فاطهروا ؛ فهذا حكم نوع آخر؛ ثم قال للنوعين جميعا: ( وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) ؛ وقال بهذا التأويل ؛ من أصحاب محمد بن مسلمة - رحمه الله -؛ وغيره. مالك
وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية: "إذا قمتم إلى الصلاة محدثين"؛ وليس في الآية - على هذا - تقديم؛ ولا تأخير؛ بل يترتب في الآية حكم واجد الماء؛ إلى قوله: "فاطهروا"؛ ودخلت الملامسة الصغرى في قوله: "محدثين"؛ ثم ذكر بعد ذلك - بقوله: وإن كنتم مرضى ؛ إلى آخر الآية - من النوعين جميعا؛ وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد؛ ليذكر الجنب العادم للماء؛ كما ذكر الواجد؛ وهذا هو تأويل حكم عادم الماء ؛ وغيره؛ وعليه تجيء أقوال الصحابة؛ الشافعي كسعد بن أبي وقاص؛ ؛ وابن عباس وأبي موسى ؛ وغيرهم.
وقوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم : الغسل في اللغة: إيجاد الماء في المغسول؛ مع إمرار شيء عليه؛ كاليد؛ أو ما قام مقامها؛ وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء؛ أو التقليل منه؛ وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه؛ وإمرار اليد عليه؛ والوجه: ما واجه الناظر وقابله؛ وحده في الطول منابت الشعر فوق الجبهة؛ إلى آخر الذقن؛ وعبر بعض الناس: "إلى ما قبل الذقن"؛ وقيل: بل حده فيها آخر الشعر.
واختلف العلماء في على قولين: روي تخليلها عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - من حديث تخليل اللحية ؛ ذكره أنس ؛ واختلف في حده عرضا؛ فهو في المرأة؛ والأمرد؛ من الأذن [ ص: 116 ] إلى الأذن؛ وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال؛ فقيل: "من الشعر إلى الشعر"؛ يعني شعر العارضين؛ وقيل: "من الأذن إلى الأذن"؛ ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه؛ وقيل: "يغسل ذلك البياض استحبابا"؛ واختلف في الأذنين؛ فقيل: "هما من الرأس"؛ وقال الطبري : "من الوجه"؛ وقيل: "هما عضو قائم بنفسه؛ ليسا من الوجه؛ ولا من الرأس"؛ وقيل: "ما أقبل منهما من الوجه؛ وما أدبر فهو من الرأس"؛ واختلف في المضمضة؛ والاستنشاق؛ فجمهور الأمة يرونها سنة؛ ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه؛ وقال الزهري : "الاستنشاق شطر الوضوء"؛ وقال مجاهد ؛ حماد بن أبي سليمان ؛ وقتادة ؛ وعطاء ؛ والزهري ؛ وابن أبي ليلى : "من وابن راهويه أعاد الصلاة"؛ وقال ترك المضمضة؛ والاستنشاق في الوضوء أحمد : "يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة"؛ والناس كلهم على أن إلا ما روي عن داخل العينين لا يلزم غسله؛ أنه كان ينضح الماء في عينيه. عبد الله بن عمر
وقوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق : اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع؛ ولذلك كان يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة؛ وحد الله موضع الغسل منه بقوله: أبو هريرة "إلى المرافق"؛ يقال في واحدها: "مرفق"؛ و"مرفق"؛ وكسر الميم وفتح الفاء أشهر؛ واختلف العلماء: هل تدخل المرافق في الغسل؛ أم لا؟ فقالت طائفة: "لا تدخل؛ لأن "إلى" غاية تحول بين ما قبلها؛ وما بعدها"؛ وقالت طائفة: "تدخل المرافق في الغسل؛ لأن ما بعد "إلى"؛ إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل"؛ ومثل في ذلك بأن تقول: "اشتريت الفدان إلى حاشيته"؛ أو بأن تقول: "اشتريت الفدان إلى الدار"؛ وبقوله: أبو العباس المبرد أتموا الصيام إلى الليل .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وتحرير العبارة في هذا المعنى؛ أن يقال: "إذا كان ما بعد "إلى" ليس مما قبلها؛ فالحد أول المذكور بعدها؛ وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها؛ فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها"؛ ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل؛ والروايتان محفوظتان عن - رضي الله عنه -؛ روى عنه مالك بن أنس أن المرفقين غير داخلين في الحد؛ وروي عنه أنهما داخلان. أشهب
[ ص: 117 ] وقوله تعالى: وامسحوا برءوسكم ؛ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء؛ وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين؛ ثم يرسل؛ ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين.
واختلف في مسح الرأس في مواضع؛ منها هيئة المسح؛ فقالت طائفة - منها ؛ مالك ؛ وجماعة من الصحابة؛ والتابعين -: "يبدأ بمقدم رأسه؛ ثم يذهب بهما إلى قفاه؛ ثم يردهما إلى مقدمه"؛ وقالت فرقة: "يبدأ من مؤخر الرأس؛ حتى يجيء إلى المقدم؛ ثم يرد إلى المؤخر"؛ وقالت فرقة: "يبدأ من وسط الرأس؛ فيجيء بيديه نحو الوجه؛ ثم يرد؛ فيصيب باطن الشعر؛ فإذا انتهى إلى وسط الرأس؛ أمر يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس؛ ثم يرد؛ فيصيب باطنه؛ ويقف عند وسط الرأس"؛ وقالت فرقة: "يمسح رأسه من هنا وهنا؛ على غير نظام؛ ولا مبدإ محدود؛ حتى يعمه". والشافعي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "وهذا كله قول بالعموم"؛ واختلف في بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن؛ فالجمهور على أنه سنة؛ وقيل: "هو فرض". رد اليدين على شعر الرأس؛ هل هو فرض؛ أم سنة؛
ومن مواضع الخلاف في فقالت جماعة: "الواجب من مسح الرأس عمومه"؛ ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه؛ وقال مسح الرأس قدر ما يمسح؛ : "إن مسح ثلثي الرأس؛ وترك الثلث؛ أجزأ؛ لأنه كثير في أمور من الشرع"؛ وقال محمد بن مسلمة "إن مسح الناصية أجزأ". أشهب:
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس؛ وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث؛ في بعضها ذكر الناصية؛ وفي بعضها ذكر مقدم الرأس؛ إلا ما روي عن إبراهيم؛ ؛ قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك؛ وكان والشعبي يمسح مقدم رأسه؛ وروي عن سلمة بن الأكوع أنه مسح اليافوخ فقط؛ وقال أصحاب الرأي: إن مسح بثلاث أصابع أجزأه؛ وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزئ؛ وقال قوم: يجزئ من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة؛ وقال ابن عمر إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها؛ وحكى الحسن بن أبي الحسن: وغيره عن الطبري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه. سفيان الثوري
[ ص: 118 ] ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس: ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا؛ وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة؛ واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس؛ فالمشهور أن ذلك يجزئ؛ وقيل: لا يجزئ.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويترجح أنه لا يجزئ؛ لأنه خروج عن سنة المسح؛ وكأنه لعب؛ إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض؛ فينبغي ألا يختلف في الإجزاء.
ومن مواضع الخلاف عدد المسحات؛ فالجمهور على مرة واحدة؛ ويجزئ ذلك عند ؛ وثلاث أحب إليه؛ وروي عن الشافعي أنه مسح رأسه مرتين؛ وروي عن ابن سيرين أنه قال: يمسح الرأس ثلاثا؛ وقاله أنس ؛ سعيد بن جبير ؛ وعطاء وميسرة.
والباء في قوله: "برءوسكم"؛ مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس؛ والمعنى عنده: "وامسحوا رؤوسكم"؛ وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس؛ كأن المعنى: "أوجدوا مسحا برؤوسكم"؛ فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك؛ ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثارا؛ وأقيسة؛ بحسب اجتهاد العلماء - رحمهم الله.
وقرأ ؛ ابن كثير ؛ وأبو عمرو : "وأرجلكم"؛ خفضا؛ وقرأ وحمزة ؛ نافع ؛ وابن عامر : "وأرجلكم"؛ نصبا؛ وروى والكسائي عن أبو بكر الخفض؛ وروى عنه عاصم حفص النصب؛ وقرأ الحسن؛ : "وأرجلكم"؛ بالرفع؛ المعنى: "فاغسلوها"؛ ورويت عن والأعمش ؛ وبحسب هذا اختلاف الصحابة؛ والتابعين؛ فكل من قرأ بالنصب جعل العامل "اغسلوا"؛ وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء؛ دون المسح؛ وهذا هو مذهب الجمهور؛ وعليه فعل النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وهو اللازم من قوله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح؛ فنادى بأعلى صوته: نافع "ويل للأعقاب من النار".
[ ص: 119 ] ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين؛ واختلفوا؛ فقالت فرقة منهم: الفرض في الرجلين المسح؛ لا الغسل؛ وروي عن - رضي الله عنهما - أنه قال: "الوضوء غسلتان؛ ومسحتان"؛ وروي أن ابن عباس خطب الحجاج بالأهواز؛ فذكر الوضوء؛ فقال: "اغسلوا وجوهكم وأيديكم؛ وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم؛ وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه؛ فاغسلوا بطونهما؛ وظهورهما؛ وعراقيبهما"؛ فسمع ذلك ؛ فقال: "صدق الله وكذب أنس بن مالك "؛ قال الله تعالى: الحجاج وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ؛ قال: وكان إذا مسح رجليه بلهما؛ وروي أيضا أنس عن أنه قال: "نزل القرآن بالمسح؛ والسنة بالغسل"؛ أنس وكان يمسح على رجليه؛ وليس في الرجلين غسل؛ إنما نزل فيهما المسح. وقال عكرمة : "نزل الشعبي جبريل بالمسح"؛ ثم قال: "ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا؛ ويلغى ما كان مسحا؟"؛ وروي عن أنه قال: "امسح على رأسك وقدميك"؛ وقال أبي جعفر : "افترض الله غسلتين؛ ومسحتين". قتادة
وكل من ذكرنا فقراءته: "وأرجلكم"؛ بكسر اللام؛ وبذلك قرأ ؛ علقمة ؛ والأعمش ؛ وغيرهم؛ وذكرهم والضحاك تحت ترجمة القول بالمسح؛ وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل؛ وروي عن الطبري أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا؛ ويقولون: "تمسحت للصلاة"؛ بمعنى: "غسلت أعضائي"؛ وقال ؛ وغيره؛ في تفسير قوله تعالى: أبو عبيدة فطفق مسحا ؛ إنه الضرب؛ ويقال: "مسح علاوته"؛ إذا ضربه؛ قال : "فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل؛ ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما بـ "إلى"؛ كما وقع في الأيدي؛ وهي مغسولة؛ ولم يقع في الممسوح حد". أبو علي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه؛ فكان الوضوء مغسولين؛ حد أحدهما؛ وممسوحين؛ حد أحدهما؛ وقال - رحمه الله -: "إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء [ ص: 120 ] إليهما؛ ثم يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلا؛ ماسحا"؛ قال: "ولذلك كره أكثر العلماء الطبري للمتوضئ أن يدخل رجليه في الماء؛ دون أن يمر يديه".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقد جوز ذلك قوم؛ منهم وبعض فقهاء الأمصار؛ وجمهور الأمة من الصحابة؛ والتابعين؛ على أن الفرض في الرجلين الغسل؛ وأن المسح لا يجزئ؛ وروي ذلك عن الحسن البصري ؛ وهو يقرأ بكسر اللام. الضحاك
والكلام في قوله: "إلى الكعبين"؛ كما تقدم في قوله: "إلى المرافق"؛ واختلف اللغويون في "الكعبين"؛ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل؛ وهذان هما حد الوضوء؛ بإجماع؛ فيما علمت؛ واختلف: هل يدخلان في الغسل؛ أم لا؟ كما تقدم في المرفق؛ وقال قوم: الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم؛ حيث يجتمع شراك النعل.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: "ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا؛ ولكن عبد الوهاب؛ في التلقين؛ جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام"؛ قال - رحمه الله -: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق؛ وروى الشافعي عن الطبري يونس؛ عن عن أشهب؛ قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق؛ المحاذيان للعقب؛ وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم. مالك
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويظهر ذلك من الآية؛ من قوله - في الأيدي -: "إلى المرافق"؛ أي: في كل يد مرفق؛ ولو كان كذلك في الأرجل لقيل: "إلى الكعوب"؛ فلما كان في كل رجل كعبان؛ خصا بالذكر.
وألفاظ الآية تقتضي واختلف العلماء في ذلك؛ فقال الموالاة بين الأعضاء؛ ابن [ ص: 121 ] أبي سلمة ؛ وابن وهب : ذلك من فروض الوضوء؛ في الذكر؛ والنسيان؛ وقال ابن عبد الحكيم: ليس بفرض مع الذكر؛ وقال : هو فرض مع الذكر؛ ساقط مع النسيان. مالك
وكذلك تتضمن ألفاظ الآية واختلف فيه؛ فقال الترتيب؛ الأبهري: الترتيب سنة؛ وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزئ؛ واختلف في العامد؛ فقيل: يجزئ؛ ويرتب في المستقبل؛ وقال أبو بكر القاضي؛ وغيره: لا يجزئ؛ لأنه عابث.
وقوله تعالى: وإن كنتم جنبا : "الجنب"؛ مأخوذ من "الجنب"؛ لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب؛ ومن المجاورة والقرب؛ قيل: والجار الجنب ؛ ويحتمل "الجنب"؛ أن يكون من البعد؛ إذ البعد جنابة؛ ومنه "تجنبت الشيء"؛ إذا بعدت عنه؛ فكأنه جانب الطهارة؛ وعلى هذا يحتمل أن يكون الجار الجنب هو البعيد الجوار؛ ويكون مقابلا للصاحب بالجنب.
و "فاطهروا"؛ أمر بالاغتسال بالماء؛ ولذلك رأى - رضي الله عنه -؛ عمر بن الخطاب ؛ وغيرهما؛ أن الجنب لا يتيمم البتة؛ بل يدع الصلاة حتى يجد الماء؛ وقال جمهور الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء؛ وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء؛ بقوله تعالى: وابن مسعود أو لامستم النساء ؛ إذ الملامسة هنا الجماع؛ والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء؛ وتمر اليد مع ذلك عليه؛ هذا هو مشهور المذهب؛ وروى محمد بن مروان الظاهري؛ وغيره؛ عن أنه مالك دون تدلك؛ وقد تقدم في سورة "النساء" تفسير قوله - عز وجل -: يجزئ في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء؛ وإن كنتم مرضى ؛ إلى قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ؛ وقراءة من قرأ: "من الغيط".
وقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ؛ "الإرادة": صفة ذات؛ وجاء الفعل مستقبلا؛ مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة؛ فإنها تجيء مؤتنفة؛ من تطهير المؤمنين؛ وإتمام النعم عليهم.
وتعدية "أراد"؛ وما تصرف منه بهذه اللام؛ عرف في كلام العرب؛ ومنه قول الشاعر:
[ ص: 122 ]
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
قال : وسألته - رحمه الله - عن هذا؛ فقال: المعنى: إرادتي لأنسى؛ ومن ذلك قول سيبويه : قيس بن سعد
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام؛ وما قال الخليل لسيبويه أخصر؛ وأحسن؛ ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن "من" تصير زائدة في الواجب؛ وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة "من"؛ وإن لم يكن النفي واقعا على الفعل الواقع على الحرج؛ ولهذا نظائر.
و"الحرج": الضيق؛ والحرجة: الشجر الملتف المتضايق؛ ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل: "إنه كان في مثل الحرج من الرماح"؛ ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: وقوله - صلى اللـه عليه وسلم -: "دين الله يسر"؛ وجاء لفظ الآية على العموم؛ والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم؛ والرخصة فيه؛ وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا؛ ولذلك "بعثت بالحنيفية السمحة"؛ أسيد: "ما هي بأول بركتكم يا آل ". أبي بكر قال
وقوله تعالى: ولكن يريد ليطهركم ؛ الآية؛ إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله - تبارك وتعالى.
"ولعلكم" ترج في حق البشر؛ وقرأ : "يطهركم"؛ بسكون الطاء؛ وتخفيف الهاء. سعيد بن المسيب