قوله - عز وجل -:
قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين
أمر الله - تبارك وتعالى - نبيه - صلى اللـه عليه وسلم - أن يجاهرهم بالتبري مما هم فيه؛ و"أن أعبد"؛ هو بتأويل المصدر؛ والتقدير: "عن عبادة"؛ ثم حذف الجار؛ فتسلط الفعل؛ ثم وضع "أن [ ص: 374 ] أعبد"؛ موضع المصدر؛ وعبر عن الأصنام بـ "الذين"؛ على زعم الكفار؛ حين أنزلوها منزلة من يعقل؛ و"تدعون"؛ معناه: تعبدون؛ ويحتمل أن يريد: تدعون في أموركم؛ وذلك من معنى العبادة واعتقادها آلهة.
وقرأ جمهور الناس: "قد ضللت"؛ بفتح اللام؛ وقرأ ؛ يحيى بن وثاب ؛ وأبو عبد الرحمن السلمي : "ضللت"؛ بكسرها؛ وهما لغتان؛ و"إذا"؛ في هذا الموضع متوسطة؛ وما بعدها معتمد على ما قبلها؛ فهي غير عاملة؛ إلا أنها تتضمن معنى الشرط؛ فهي بتقدير: "إن فعلت ذلك"؛ و"أهواء": جمع "هوى"؛ وهو الإرادة والمحبة في المرديات من الأمور؛ هذا غالب استعمال الهوى؛ وقد تقدم. وطلحة بن مصرف
وقوله تعالى قل إني على بينة من ربي ؛ الآية: هذه الآية تماد في إيضاح مباينته لهم؛ والمعنى: "قل إني على أمر بين"؛ فحذف الموصوف؛ ثم دخلت هاء المبالغة؛ كقوله - عز وجل -: بل الإنسان على نفسه بصيرة ؛ ويصح أن تكون الهاء في "بينة"؛ مجردة للتأنيث؛ ويكون بمعنى البيان؛ كما قال: ويحيا من حي عن بينة ؛ والمراد بالآية: "إني أيها المكذبون؛ في اعتقادي؛ ويقيني؛ وما حصل في نفسي من العلم؛ على بينة من ربي". "وكذبتم به ما"؛ الضمير في "به"؛ عائد على "بين"؛ في تقدير هاء المبالغة؛ أو على "البيان"؛ التي هي "بينة"؛ بمعناه في التأويل الآخر؛ أو على الرب؛ وقيل: على القرآن؛ وهو - وإن لم يتقدم له ذكر جلي - فإنه بعض البيان الذي منه حصل الاعتقاد واليقين للنبي - عليه الصلاة والسلام -؛ فيصح عود الضمير عليه.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وللنبي - عليه الصلاة والسلام - أمور أخر؛ غير القرآن؛ وقع له العلم أيضا من جهتها؛ كتكليم الحجارة له - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ورؤيته للملك قبل الوحي؛ وغير ذلك.
وقال بعض المفسرين: الضمير في "به"؛ عائد على "ما"؛ والمراد بها الآيات المقترحة - على ما قال بعض المفسرين -؛ وقيل: المراد بها العذاب؛ وهذا يترجح بوجهين: أحدهما من جهة المعنى؛ وذلك أن قوله: "وكذبتم به"؛ يتضمن أنكم [ ص: 375 ] واقعتم ما تستوجبون به العذاب؛ إلا أنه ليس عندي؛ والآخر من جهة اللفظ؛ وهو الاستعجال الذي لم يأت في القرآن "استعجالهم"؛ إلا للعذاب؛ لأن اقتراحهم بالآيات لم يكن باستعجال؛ وقوله: إن الحكم إلا لله ؛ أي القضاء والإنفاذ؛ "يقص الحق"؛ أي يخبر به؛ والمعنى: يقص القصص الحق.
وهذه قراءة ؛ ابن كثير ؛ وعاصم ؛ ونافع ؛ وقرأ وابن عباس ؛ أبو عمرو ؛ وحمزة ؛ والكسائي ؛ "يقض الحق"؛ أي: ينفذه؛ وترجح هذه القراءة بقوله: "الفاصلين"؛ لأن الفصل مناسب للقضاء؛ وقد جاء أيضا الفصل والتفصيل مع القصص؛ وفي مصحف وابن عامر - رضي الله عنه -: "وهو أسرع الفاصلين"؛ قال عبد الله بن مسعود : وقرأ أبو عمرو الداني ؛ عبد الله وأبي؛ ؛ ويحيى بن وثاب ؛ وإبراهيم النخعي ؛ وطلحة : "يقضي بالحق"؛ بزيادة باء الجر؛ وقرأ والأعمش ؛ مجاهد : "يقضي الحق وهو خير الفاصلين". وسعيد بن جبير
وقوله تعالى قل لو أن عندي ؛ الآية؛ المعنى: "لو كان عندي الآيات المقترحة - أو العذاب؛ على التأويل الآخر - لقضي الأمر"؛ أي: "لوقع الانفصال؛ وتم النزاع؛ لظهور الآية المقترحة؛ أو لنزول العذاب"؛ بحسب التأويلين؛ وحكى أن المعنى: "لقامت القيامة"؛ ورواه الزهراوي عن النقاش ؛ وقال بعض الناس: معنى "لقضي الأمر"؛ أي: لذبح الموت. عكرمة
[ ص: 376 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول ضعيف جدا؛ لأن قائله سمع هذا المعنى في قوله تعالى وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر ؛ وذبح الموت هنا لائق؛ فنقله إلى هذا الموضع دون شبه؛ وأسند هذا القول إلى الطبري ؛ غير مقيد بهذه السورة؛ والظن ابن جريج بابن جريج أنه إنما فسر الذي في يوم الحسرة؛ والله أعلم بالظالمين ؛ يتضمن الوعيد والتهديد.