قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم
الساحر كان عندهم في ذلك الزمن أعلى المراتب وأعظم الرجال، ولكن وصفهم موسى بذلك مع مدافعتهم له عن النبوة ذم عظيم وحط، وذلك قصدوا إن لم يمكنهم أكثر، وقولهم: يريد أن يخرجكم من أرضكم يعنون بأنه يحكم فيكم بنقل رعيتكم في بني إسرائيل فيفضي ذلك إلى خراب دياركم إذا ذهب الخدمة والعمرة، وأيضا فلا محالة أنهم خافوا أن يقاتلهم، وجالت ظنونهم في كل مجال، وقال : كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك. وقوله: النقاش فماذا تأمرون الظاهر أنه من كلام الملإ بعضهم إلى بعض. وقيل: هو من كلام فرعون لهم، وروى كردم عن "تأمرون" بكسر النون، وكذلك في الشعراء. و"ما" استفهام، و"إذا" بمعنى "الذي"، فهما ابتداء وخبر، وفي "تأمرون" ضمير عائد على "الذي" تقديره: تأمرون به، ويجوز أن تجعل "ماذا" بمنزلة اسم واحد في موضع نصب [ ص: 16 ] بـ "تأمرون" ولا يضمر فيه على هذا. قال نافع : والسحر مأخوذ من: سحر المطر الأرض إذا جادها حتى يقلب نباتها ويقلعه من أصوله، فهو يسحرها سحرا، والأرض مسحورة. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما سحر المطر الطين إذا أفسده حتى لا يمكن فيه عمل، والسحر: الأخذة التي تأخذ العين حتى ترى الأمر غير ما هو، وربما سحر الذهن، ومنه قول : ذي الرمة
وساحرة السراب من الموامي ... ترقص في نواشزها الأروم
أراد: أنه يخيل نفسه ماء للعيون.
ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة.
وقرأ : "أرجئهو" بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء، وقرأ ابن كثير : "أرجئه" بالهمز دون واو بعدها، وقرأ أبو عمرو وحده في رواية نافع : "أرجه" بكسر الهاء، ويحتمل أن يكون المعنى أخره فسهل الهمزة، ويحتمل أن يكون من الرجا بمعنى: أطعمه ورجه، قاله قالون ، وقرأ المبرد عن ورش : "أرجهي" بياء بعد كسرة الهاء، وقرأ نافع : "أرجئه" بكسر الهاء وبهمزة قبلها. قال ابن عامر : وهذا غلط. وقرأ الفارسي عاصم : "أرجه" بضم الهاء دون همز، وروى والكسائي عن [ ص: 17 ] أبان : "أرجه" بسكون الهاء، وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها، ومنه قول الشاعر: عاصم
أنحى علي الدهر رجلا ويدا ... يقسم لا أصلح إلا أفسدا
فيصلح اليوم ويفسد غدا.
وقال الآخر:
لما رأى أن لا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
وحكى أنه لم يكن يجالس النقاش فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا، ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا: إن قتلته دخلت على الناس شبهة، ولكن اغلبه بالحجة. و"المدائن" جمع مدينة، وزنها فعيلة من مدن، أو مفعلة من دان يدين، وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز، و"حاشرين" معناه: جامعين، قال المفسرون: وهم الشرط، وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم : "بكل ساحر" ، وقرأ وابن عامر حمزة : "بكل سحار" على بناء المبالغة، وكذلك في سورة يونس، وأجمعوا على "سحار" في سورة الشعراء، وقال والكسائي : معنى [ ص: 18 ] الإرجاء الذي أشاروا إليه: السجن والحبس. قتادة
وقوله تعالى: وجاء السحرة الآية، هنا محذوفات يقتضيها ظاهر الكلام، وهي أنه بعث إلى السحرة وأمرهم بالمجيء، وقال رضى الله عنهما: أنه بعث غلمانا فعلموا بالفرما ابن عباس
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع في رواية وعاصم حفص : "إن لنا لأجرا" على جهة الخبر، وقرأوا في الشعراء: "آن لنا" ممدودة مفتوحة الألف غير ، فإنه لا يمدها، قال عاصم : ويجوز أن تكون على جهة الاستفهام وحذف ألفها، وقد قيل ذلك في قوله: "أن عبدت بني إسرائيل" ومنه قول الشاعر: . أبو علي
أفرح أن أرزأ الكرام ..... ... ...........................
وقرأ ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة هنا وفي الشعراء: "آئن" بألف الاستفهام قبل "إن"، وقرأت فرقة: "أئن" دون مد، وقرأ والكسائي هنا وفي الشعراء: "أين" . أبو عمرو
[ ص: 19 ] والأجر هنا: الأجرة، فاقترحوها إن غلبوا، فأنعم فرعون لهم بها وزادهم المنزلة والجاه، ومعناه: المقربين مني، وروي أن السحرة الذين جاءوا إلى فرعون كانوا خمسة عشر ألفا، قاله ، وقال ابن إسحاق : كانوا تسعمائة، وذكر ابن جريج أنهم كانوا اثنين وسبعين رجلا، وقال النقاش : كانوا سبعين ألفا، قال عكرمة محمد بن المنذر: كانوا ثمانين ألفا، وقال : مائتي ألف ونيفا. السدي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه الأقوال ليس لها سند يتوقف عنده، وقال : كانوا اثني عشر ألفا، وقال كعب الأحبار : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل مع كل رجل حبل وعصا، وقال السدي أبو ثمامة : كانوا سبعة عشر ألفا.
وقوله تعالى: قالوا يا موسى إما أن تلقي الآية. "أن" في قوله: "إما أن" في موضع نصب، أي: إما أن تفعل الإلقاء، ويحتمل أن تكون في موضع رفع، أي: إما هو الإلقاء. وخير السحرة موسى في أن يتقدم في الإلقاء أو يتأخر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا فعل المدل الواثق بنفسه، والظاهر أن التقدم في التخيلات والمخارق والحجج، لأن بديلتها تمضي بالنفس، فليظهر الله أمر نبوة موسى قوى نفسه ويقينه، ووثق بالحق فأعطاهم التقدم، فنشطوا وسروا حتى أظهر الله الحق وأبطل سعيهم.
وقوله تعالى: سحروا أعين الناس نص في أن لهم فعلا ما زائدا على ما يحدثونه من التزييف والآثار في العصا وسائر الأجسام التي يصرفون فيها صناعتهم. و"استرهبوهم" بمعنى: أرهبوهم، أي: أفزعوهم، فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس، ووصف الله تبارك وتعالى سحرهم بالعظم، ومعنى ذلك: من كثرته، وروي أنهم جلبوا ثلاثمائة وستين بعيرا موقرة بالحبال والعصي فلما ألقوها تحركت وملأت الوادي يركب بعضها بعضا، فاستهول الناس ذلك واسترهبوهم، قال : قيل: إنهم جعلوا فيها الزئبق فكانت لا تستقر. الزجاج