الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: فسأكتبها للذين يتقون ، وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ، ابن عباس ، وغيرهما. وابن جبير
و"يتبعون" معناه: في شرعه ودينه، و"الرسول" و"النبي" اسمان لمعنيين، فإن الرسول أخص من النبي، هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول. [ ص: 61 ] والنبي مأخوذ من النبإ، وقيل: لما كان طريقا إلى رحمة الله تبارك وتعالى وسببا شبه بالنبي الذي هو الطريق، وأنشدوا:
لأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف، كذا قاله ، وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي سيبويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنبروا اسمي"، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم، وكذلك حين قال: "آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وبنبيك الذي أرسلت" البراء بن عازب ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه، لأنه نبئ ثم أرسل، وأيضا في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد. رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
و "الأمي" بضم الهمزة، قيل: نسب إلى أم القرى وهي مكة.
[ ص: 62 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واللفظة -على هذا- مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة، وقيل: هو منسوب -لعدم الكتابة والحساب- إلى الأم، أي: هو على حال الصدور عن الأم في عدم الكتابة. وقالت فرقة: هو منسوب إلى الأمة، وهذا أيضا مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع، وقرأ بعض القراء فيما ذكر : "الأمي" بفتح الهمزة، وهو منسوب إلى الأم وهو القصد، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم، قال أبو حاتم : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب. ابن جني
والضمير في قوله: "يجدونه" لبني إسرائيل، والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد صفته ونعته. وروي أن الله عز وجل قال لموسى: قل لبني إسرائيل: أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا: إنما نريد أن نصلي في الكنائس، وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت، وأن لا نقرأ التوراة إلا نظرا، فقيل لهم: فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وروي عن رضي الله عنهما في عبد الله بن عمر وغيره أن في التوراة من صفة البخاري محمد صلى الله عليه وسلم: . وفي "يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فنقيم به قلوبا غلفا، وآذانا صما، وأعينا عميا" : البخاري . "فنفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا"
ونص نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال: "قلوبا غلفا، وآذانا صموما" ، قال كعب الأحبار : وهي لغة حميرية، وقد رويت "غلوفيا وصموميا" . الطبري
[ ص: 63 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأظن هذا وهما وعجمة.
وقوله تعالى: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يجعله متعلقا بـ "يجدونه" في موضع الحال على تجوز، أي: يجدونه في التوراة آمرا بشرط وجوده، فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم، والمعنى الثاني يقتضي ذلك، فالمعنى الثاني -على هذا- ذم لهم، ونحا إلى هذا ، وقال أبو إسحاق الزجاج في "الأغفال": "يأمرهم" عندي تفسير لما كتب من ذكره، كما أن قوله تعالى: أبو علي الفارسي خلقه من تراب تفسير للمثل، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في "يجدونه" لأن الضمير للذكر والاسم، والذكر والاسم لا يأمران.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب مما منع منه ، وانظر، و"بالمعروف" ما عرف الشرع، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: أبو علي "بعثت لأتمم محاسن الأخلاق"، و"المنكر" مقابله.
و"الطيبات" قال فيها بعض المفسرين: إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها، ومذهب رحمه الله أنها المحللات، فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا، وبحسب هذا يقول في "الخبائث" إنها المحرمات، وكذلك قال مالك رضي الله عنهما: ابن عباس وعلى هذا حلل الخبائث: هي لحم الخنزير والربا وغيره، المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها، ومذهب مالك رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها لأن عمومها بهذا [ ص: 64 ] الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع، ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافا ليس هذا موضع تقصيه. الشافعي
وقوله تعالى: ويضع عنهم إصرهم الآية، "يضع" كان قياسه أن يكون "يضع" بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد، قال : وأدغم أبو حاتم "يضع عنهم" العين في العين. وأشمها الرفع وأشبعها أبو عمرو أبو جعفر وشيبة ، وقرأ ونافع : "ويذهب عنهم إصرهم"، والإصر: الثقل، وبه فسر هنا- طلحة ، قتادة ، وابن جبير ، والإصر أيضا: العهد، وبه فسر ومجاهد ، ابن عباس ، والضحاك ، وغيرهم. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال. وحكى والحسن عن أبو حاتم قال: الإصر: شدة العبادة. وقرأ ابن جبير ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والناس: "إصرهم"، وقرأ والكسائي وحده، ابن عامر ، وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم، وأبو سراج الهذلي ، : "آصارهم" بالجمع، لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة، ومن وحد الإصر فإنما فهو مفرد اسم جنس يراد به الجمع، قال وأبو جعفر : في كتاب بعض العلماء: "أصرهم" واحد مفتوح الهمزة عن أبو حاتم ، نافع ، والزيات، وذلك غلط. وذكر ها وعيسى عن مكي عن أبي بكر وقال: هي لغة. عاصم
والأغلال التي كانت عليهم عبارة مستعارة أيضا لتلك الأثقال، كقطع الجلد من أثر البول، وأن لا دية، ولا بد من قتل للقاتل، وترك الأشغال يوم السبت، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه، هذا قول جمهور المفسرين، وهذا مثل قولك: "طوق فلان كذا" إذا ألزمه، ومنه قول الشاعر:
اذهب بها اذهب بها ... طوقتها طوق الحمامه
أي: لزمك عارها. [ ص: 65 ] ومن هذا المعنى قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى الحق شيئا فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم. وقال : إنما المراد هنا بالأغلال قول الله عز وجل في اليهود ابن زيد غلت أيديهم ، فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها.
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، وقرأ الجحدري، وسليمان التيمي ، ، وقتادة : "عزروه" بالتخفيف، وجمهور الناس على التشديد في الزاي، ومعناه في القراءتين وقروه. والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة. والنور كناية عن جملة الشرع، وقوله: "معه" فيه حذف مضاف، والتقدير: مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء البصر بالنور، و"المفلحون" معناه: الفائزون ببغيتهم، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته. وعيسى