ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين
[ ص: 561 ] هذه آية قصص فيه تمثيل لقريش وكفار العرب وإعلام محمد صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل.
وروي أن نوحا عليه السلام أول رسول إلى الناس. وروي أن إدريس نبي من بني آدم إلا أنه لم يرسل، فرسالة نوح إنما كانت إلى قومه كسائر الأنبياء، وأما الرسالة العامة فلم تكن إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، وعاصم : "إني" بكسر الألف، وقرأ وحمزة ، ابن كثير ، وأبو عمرو : "أني" بفتح الألف. فالكسر على إضمار القول، والمعنى: قال لهم: والكسائي إني لكم نذير مبين ، ثم يجيء قوله: ( ألا تعبدوا ) معمولا لـ "أرسلنا"، أي: أرسلنا نوحا بألا تعبدوا إلا الله، واعترض أثناء الكلام بقوله: إني لكم نذير مبين ، والفتح على إعمال "أرسلنا" في "أني" أي: بأني لكم نذير. قال : وفي هذه القراءة خروج من الغيبة إلى المخاطبة. أبو علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبته لقوله، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام: أن أنذرهم ونحوه لصح ذلك.
و "النذير" للتحفظ من المكاره بأن يعرفها وينبه عليها ومبين من أبان يبين.
وقوله تعالى: ( ألا تعبدوا إلا الله ) ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان ونحوها، وذلك بين في غير هذه الآية. و"أليم" معناه: مؤلم، ووصف به اليوم وحقه أن يوصف به العذاب تجوزا إذ العذاب في اليوم، فهو كقولهم: نهار صائم وليل قائم.
و"الملأ" الجمع والأكثر من القبيلة والمدينة ونحوه، ويسمى الأشراف ملأ إذ هم عمدة الملإ والسادون مسده في الآراء والأمور، وكل جماعة كبيرة ملأ.
ولما قال لهم نوح: إني لكم نذير قالوا: ما نراك إلا بشرا مثلنا أي والله لا يبعث رسولا من البشر، فأحالوا الجائز على الله تعالى.
و "الأراذل" جمع أرذل، وقيل: جمع أرذل وأرذال جمع رذل وكان اللازم -على هذا- أن يقال: أراذيل وإذا ثبتت الياء في جمع [ ص: 562 ] "صيرف" فأحرى ألا تزال في موضع استحقاقها. وهم سفلة الناس ومن لا أخلاق له، ولا يبالى ما يقول ولا ما يقال له.
وقرأ الجمهور "بادي الرأي" بياء دون همز، من بدا يبدو، ويحتمل أن يكون من بدأ مسهلا، وقرأ أبو عمرو "بادئ الرأي" بالهمز من بدأ يبدأ. وعيسى الثقفي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبين القراءتين اختلاف في المعنى يعطيه التدبر، فتركت التطويل ببسطه، والعرب تقول: "أما بادئ بدء فإني أحمد الله"، "وأما بادي بدي"، بغير همز فيهما، وقال الراجز:
أضحى لخالي شبهي بادي بدي ... وصار للفحل لساني ويدي
وقال الآخر:
وقد علتني ذرأة بادي بدي.
[ ص: 563 ] وقرأ الجمهور بهمز "الرأي"، وقرأ بترك الهمز. و"بادي" نصب على الظرف وصح أن يكون اسم الفاعل ظرفا كما يصح في قريب ونحوه، وفعيل وفاعل متعاقبان أبدا على معنى واحد، وفي المصدر كقولك: جهد نفسي أحب كذا وكذا. أبو عمرو
وتعلق قوله: بادي الرأي يحتمل ستة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بـ "نراك" بأول نظر وأقل فكرة، وذلك هو بادي الرأي، أي إلا ومتبعوك أراذلنا.
والثاني: أن يتعلق بقوله: "اتبعك" أي، وما نراك اتبعك بادي الرأي إلا الأراذل ثم يحتمل -على هذا- وقوله: بادي الرأي معنيين: أحدهما: أن يريد: اتبعك في ظاهر أمرهم وعسى أن بواطنهم ليست معك.
والثاني: أن اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادي دون تعقب، ولو تثبتوك لم يتبعوك، وفي هذا الوجه ذم الرأي الغير المروي.
والوجه الثالث: من تعلق قوله: بادي الرأي أن يتعلق بقوله: "أراذلنا" أي: الذين هم أراذلنا بأول نظر فيهم، وببادي الرأي يعلم ذلك منهم.
ويحتمل أن يكون قولهم: "بادي الرأي" وصفا منهم لنوح، أي: تدعي عظيما وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك، ونصبه على الحال وعلى الصفة.
ويحتمل أن يكون اعتراضا في الكلام مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجيء جميع هذا ستة معان، ويجوز التعلق في هذا الوجه بـ"قال" .
ومعنى: وما نرى لكم علينا من فضل أي: ما ثم شيء تستحقون به الاتباع والطاعة. ثم قال: بل نظنكم كاذبين فيحتمل أنهم خاطبوا نوحا ومن آمن معه من [ ص: 564 ] قومه، أي: أنتم كاذبون في تصديقكم هذا الكاذب، وقولكم إنه نبي مرسل. ويحتمل أنهم خاطبوا نوحا وحده فيكون من باب قوله: يا أيها النبي إذا طلقتم .