فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير
لفظ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى له ولأمته، ولم يقع لأحد شك فيقع عنه نهي، ولكن من فصاحة القول في بيان ضلالة الكفرة إخراجه في هذه العبارة، أي حالهم أوضح من أن يمترى فيها، والمرية: الشك، و هؤلاء إشارة إلى كفار العرب عبدة الأصنام، ثم قال: ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل المعنى: أنهم مقلدون [ ص: 23 ] لا برهان عندهم ولا حجة، وإنما عبادتهم تشبها منهم بآبائهم لا عن بصيرة، وقوله: وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص وعيد، ومعناه: العقوبة التي تقتضيها أعمالهم، ويظهر من قوله: غير منقوص أن على الأولين كفلا من كفر الآخرين. وقرأ الجمهور: "لموفوهم" بفتح الواو وشد الفاء، وقرأ ابن محيصن "لموفوهم" بسكون الواو وتخفيف الفاء.
وقوله تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب الآية. تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة موسى مثل له: أي: لا يعظم عليك أمر من كذبك فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى ، بكتاب فاختلف الناس عليه.
وقوله: ولولا كلمة سبقت من ربك إلى آخر الآية يحتمل أن يريد به أمة موسى ، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي، ويؤكد ذلك قوله: وإن كلا و "الكلمة" هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء، ومعنى لقضي بينهم : لفصل بين المؤمن والكافر بنعيم هذا وعذاب هذا. ووصف الشك بالمريب تقوية لمعنى الشك.
وقرأ ، الكسائي : "وإن كلا لما" بتشديد النون وتخفيف الميم من "لما"، وقرأ وأبو عمرو ، ابن كثير بتخفيفهما، وقرأ ونافع بتشديدهما، وكذلك حفص عن حمزة ، وقرأ عاصم -في رواية عاصم - بتخفيف "إن" وتشديد الميم من "لما" ، وقرأ أبي بكر ، الزهري وسليمان بن أرقم : "وإن كلا لما" بتشديد الميم وتنوينها، وقرأ بخلاف: "وإن كل لما" بتخفيف "إن" ورفع "كل" وشد "لما"، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه خفف "لما" ، وفي مصحف أبان بن تغلب أبي، : "وإن كل إلا ليوفينهم"، وهي قراءة وابن مسعود ، قال الأعمش : الذي في مصحف أبي: "وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم" . أبو حاتم
فأما الأول ف "إن" فيها على بابها، و "كلا" اسمها، وعرفها أن تدخل على [ ص: 24 ] خبرها لام، وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضا على خبر "إن"، فلما اجتمع لامان فصل بينهما ب "ما" ، هذا قول والخبر في قوله: أبي علي، ليوفينهم . وقال بعض النحاة: يصح أن تكون "ما" خبر "إن"، وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف، فهي بمنزلة "من"، كأنه قال: "وإن كلا لخلق ليوفينهم"، ورجح هذا واختاره، أما إنه يلزم القول أن تكون "ما" موصوفة إذ هي نكرة، كما قالوا: مررت بما معجب لك، وينفصل بأن قوله: الطبري ليوفينهم يقوم معناه مقام الصفة، لأن المعنى: "وإن كلا لخلق موفى عمله".
وأما من خففها -وهي القراءة الثانية في ترتيبنا- فحكم "إن" وهي مخففة حكمها مثقلة، وتلك لغة فصيحة، حكى أن الثقة أخبره: أنه سمع بعض سيبويه العرب يقول: "إن عمرا لمنطلق"، وهو نحو قول الشاعر:
ووجه مشرق النحر ... كأن ثدييه حقان
رواه أبو زيد، ويكون القول في فصل "ما" بين اللامين حسبما تقدم، ويدخلها القول الآخر من أن تكون "ما" خبر "إن".
وأما من شددها أو خفف "إن" وشدد الميم ففي قراءتيهما إشكال، وذلك أن بعض الناس قال: "إن "لما" بمعنى "إلا"، كما تقول: "سألتك لما فعلت كذا وكذا" [ ص: 25 ] بمعنى: إلا فعلت، قال : وهذا ضعيف لأن "لما" هذه لا تفارق القسم. وقال بعض الناس: أصلها "لمن ما" فقلبت النون ميما، وأدغمت في التي بعدها فبقي "لمما" فحذفت الأولى تخفيفا لاجتماع الأمثلة، كما قرأ بعض القراء: والبغي يعظكم به بحذف الياء مع الياء، وكما قال الشاعر: أبو علي
وأشمت العداة بنا فأضحوا ... لدى يتباشرون بما لقينا
قال : وهذا ضعيف، وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله: أبو علي أمم ممن معك ولم يدغم هناك فأحرى ألا يدغم هنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقال بعض الناس: أصلها "لمن ما"، ف "من" خبر "إن"، و "ما" زائدة، وفي التأويل الذي قبله أصله: "لمن ما"، ف "ما" هي الخبر دخلت عليها "من" على حد دخولها في قول الشاعر:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
وقالت فرقة: "لما" أصلها "لما" منونة، والمعنى: وإن كلا عاما حصرا شديدا، [ ص: 26 ] فهو مصدر: لم يلم، كما قال: وتأكلون التراث أكلا لما ، أي: شديدا، قلت: ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه (فعلى) كما فعل في [تترى]، فقرئ: "تترا".
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا نظر، حكي عن أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في "لما". قال الكسائي : وأما من قرأ "لما" بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا. أبو علي
وأما من قرأ: "وإن كل لما" فهي المخففة من الثقيلة، وحقها في أكثر لسان العرب - أن يرتفع ما بعدها، و "لما" هنا بمعنى "إلا"، كما قرأ جمهور القراء: إن كل نفس لما عليها حافظ ، ومن قرأ "إلا" مصرحة فمعنى قراءته واضح. وهذه الآية وعيد.
وقرأ الجمهور: "يعملون" بياء على ذكر الغائب، وقرأ : "تعملون" بتاء على مخاطبة الحاضر. الأعرج