إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون
قوله تعالى: إن الذين كفروا الآية، محكمة في الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: والناس أجمعين وهم لا يلعنون أنفسهم، فقال ، قتادة : المراد بـ "الناس": المؤمنون خاصة. وقال والربيع : معنى ذلك في الآخرة، وذلك أن الكفرة يلعنون أنفسهم يوم القيامة. وقالت فرقة: معنى ذلك أن الكفرة يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون. أبو العالية
وقرأ : "والملائكة والناس أجمعون" بالرفع على تقدير: يلعنهم الله. الحسن بن أبي الحسن
واللعنة في هذه الآية تقتضي العذاب فلذلك قال: خالدين فيها ، والضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر لثبوتها في المعنى، ثم أعلم [ ص: 397 ] تعالى برفع وجوه الرفق عنهم لأن العذاب إذا لم يخفف ولم يؤخر فهو النهاية.
و"ينظرون" معناه يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر نحو قوله تعالى: ولا ينظر إليهم يوم القيامة والأول أظهر لأن النظر بالعين إنما يعدى بإلى إلا شاذا في الشعر.
وقوله تعالى: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الآية إعلام بالوحدانية، وقال وواحد في صفة الله تعالى معناه نفي المثيل والنظير والند. أبو المعالي : هو نفي التبعيض والانقسام. وقال : لما نزلت هذه الآية عطاء بالمدينة قال كفار قريش بمكة : ما الدليل على هذا؟ وما آيته وعلامته؟ وقال : قالوا: سعيد بن المسيب إن كان هذا يا محمد ، فائتنا بآية من عنده تكون علامة الصدق، حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا، فقيل لهم: ذلك لكم، ولكن إن كفرتم بعد ذلك عذبتم، فأشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعني أدعهم يوما بيوم، فنزل عند ذلك قوله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض الآية .
ومعنى في خلق السماوات : في اختراعها وإنشائها، وقيل: المعنى أن في خلقه أي: هيئة السموات والأرض. و ( اختلاف الليل والنهار ) معناه أن هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، فهما خلفة كما قال تعالى:
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة .
وكما قال زهير :
بها العين والأرآم يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
خلفة حتى إذا ارتبعت سكنت من جلق بيعا
والنهار يجمع نهر وأنهرة، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : لعدي بن حاتم ، وهذا هو مقتضى الفقه في الإيمان ونحوها، فأما على ظاهر اللغة وأخذه من السعة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار كما قال: إنما هو بياض النهار وسواد الليل
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم.
و"الفلك" السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وليست الحركات تلك بأعيانها، بل [ ص: 399 ] كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان، والفلك المفرد. مذكر، قال الله تعالى: في الفلك المشحون .
و ما ينفع الناس هي التجارات وسائر المآرب التي يركب لها البحر من غزو وحج. والنعمة بالفلك هي إذا انتفع بها، فلذلك خص ذكر الانتفاع، إذ قد تجري بما يضر.
وما أنزل الله من السماء من ماء يعني به الأمطار التي بها إنعاش العالم، وإخراج النبات والأرزاق.
"وبث" معناه: فرق وبسط، و"دابة" تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير من الدواب، وقال الأعشى :
...................................... دبيب قطا البطحاء في كل منهل
...................................... صواعقها لطيرهن دبيب
[ ص: 400 ] وفي الحديث: . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح يقول: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة، فلذلك هي رياح، وهو معنى نشر. وأفردت مع الفلك، لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة، ثم وصفت بالطيب، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات الواو، يقال: ريح وأرواح، ولا يقال: أرياح، وإنما قيل: رياح من جهة الكسرة وطلب تناسب الياء معها.
وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال ، فاستعمل الأرياح في شعره، ولحن في ذلك، وقال له : إن الأرياح لا تجوز، فقال: أما تسمع قولهم رياح؟ فقال أبو حاتم : هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت ورجع. أبو حاتم
وأما القراء السبعة فاختلفوا، فقرأ : "الرياح" في اثني عشر موضعا هنا، وفي الأعراف: نافع يرسل الرياح ، وفي إبراهيم: ( اشتدت به الرياح ) ، وفي الحجر: الرياح لواقح ، وفي الكهف: تذروه الرياح ، وفي الفرقان: أرسل الرياح ، وفي النمل: ومن يرسل الرياح ، وفي الروم في موضعين، وفي فاطر، وفي الجاثية، وفي عسق: ( يسكن الرياح ) ، وقرأ ، أبو عمرو ، وعاصم موضعين من هذه بالإفراد: وابن عامر
[ ص: 401 ] في إبراهيم، وفي حم عسق، وقرؤوا سائرها كقراءة ، وقرأ نافع بالجمع في خمسة مواضع: هنا، وفي الحجر، وفي الكهف، وفي الروم الحرف الأول، وفي الجاثية: ابن كثير وتصريف الرياح ، وباقي ما في القرآن بالإفراد.
وقرأ بالجمع في موضعين، في الفرقان، وفي الروم الحرف الأول، وأفرد سائر ما في القرآن، وقرأ حمزة الكسائي كحمزة ، وزاد عليه في الحجر، الرياح لواقح .
ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام.
"والسحاب": جمع سحابة، سمي بذلك لأنه ينسحب، كما قالوا: حبا لأنه يحبو، قاله . وتسخيره: بعثه من مكان إلى آخر. أبو علي الفارسي
فهذه آيات أن والدليل العقلي يقوم أن الصانع للعالم لا يمكن أن يكون إلا واحدا، لجواز اختلاف الاثنين فصاعدا. الصانع موجود،