والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت [ ص: 382 ] أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون
هذا تنبيه على الاعتبار في إيجادنا بعد العدم وإماتتنا بعد ذلك، ثم اعترض بمن ينكس من الناس لأنهم موضع عبرة، و أرذل العمر : آخره الذي تفسد فيه الحواس ويختل النطق، وخص ذلك بالرذيلة -وإن كانت حالة الطفولية كذلك- من حيث كانت هذه لأرجاء معها، والطفولة إنما هي بداءة والرجاء معها متمكن، وقال بعض الناس: أول أرذل العمر خمس وسبعون سنة، روي ذلك عن رضي الله عنه. علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا في الأغلب، وهو لا ينحصر إلى مدة معينة، وإنما هو بحسب إنسان إنسان. والمعنى: ومنكم من يرتد إلى أرذل عمره، ورب من يكون ابن خمسين سنة وهو في أرذل عمره، ورب ابن مائة أو تسعين ليس في أرذل عمره، واللام في "لكيلا" يشبه أن يكون لام صيرورة، وليس ببين، والمعنى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى ألا يعلم شيئا، وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئا البتة، ولم تحل "لا" بين كي ومعمولها لتصرفها، وأنها قد تكون زائدة. ثم قرر تبارك وتعالى علمه وقدرته التي لا تتبدل، ولا تحيلها الحوادث، ولا تتغير.
وقوله تعالى: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق إخبار يراد به العبرة، وإنما هي قاعدة بني المثل عليها، والمثل هو أن المفضلين لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في اليسير فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يسمح بأن يشرك في ألوهيته الأوثان والأنصاب وهم خلقه، وغير هذا مما عبد كالملائكة والأنبياء وهم عبيده وخلقه؟ هذا تأويل ، وحكاه عن الطبري رضي الله عنهما، وحكي عنه أن الآية مشيرة إلى ابن عباس عيسى عليه السلام. قال المفسرون: هذه الآية كقوله تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم الآية ، ثم وقفهم على جحدهم نعمة الله في تنبيهه لهم على مثل هذا من مواطن النظر المؤدي إلى [ ص: 383 ] الإيمان. وقرأ الجمهور، وحفص عن : "يجحدون" بالياء من تحت، وقرأها عاصم عن أبو بكر بالتاء، وهي قراءة عاصم أبي عبد الرحمن، -بخلاف عنه-، وهي على معنى: قل لهم يا محمد، قال والأعرج : لا يكون الجحد إلا بعد معرفة. قتادة
وقوله تعالى: والله جعل لكم الآية آية تعديد نعم، و "الأزواج": الزوجات، ولا يترتب في هذه الآية الأنواع ولا غير ذلك، وقوله: من أنفسكم يحتمل أن يريد خلقه حواء من نفس آدم وجسمه، فمن حيث كانا مبتدأ الجميع ساغ حمل أمرهما على الجميع حتى صار الأمر كأن النساء خلقن من أنفس الرجال، وهذا قول ، والأظهر عندي أن يريد بقوله: قتادة من أنفسكم أي: من نوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية. وقوله تعالى: وجعل لكم من أزواجكم بنين ظاهر في تعديد النعمة في الأبناء، واختلف الناس في قوله: "وحفدة" قال : الحفدة: أولاد البنين، وقال ابن عباس : هم بنوك وبنو بنيك، وقال الحسن ، ابن مسعود وأبو الضحى، وإبراهيم، : الحفدة: الأصهار، وهم قرابة الزوجة، وقال وسعيد بن جبير : الحفدة: الأنصار والأعوان والخدم، وحكى مجاهد أن الحفدة البنات في قول بعضهم، قال الزجاج : لأنهن خدم الأبوين، ولأن لفظة "البنين" لا تدل عليهن، ألا ترى أنهن ليس في قول الله تبارك وتعالى: الزهراوي المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، وإنما الزينة في الذكور، وقال -رضي الله عنهما- أيضا: الحفدة: أولاد زوجة الرجل من غيره، ولا خلاف أن معنى "الحفد" هو الخدمة والبر والمشي في الطاعة مسرعا، ومنه في القنوت: "وإليك نسعى ونحفد"، والحفدان: خبب فوق المشي، ومنه قول الشاعر وهو ابن عباس جميل بن معمر:
حفد الولائد بينهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
[ ص: 384 ] ومنه قول الآخر:
كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذه الفرق التي ذكرت أقوالها إنما بنت على أن كل أحد جعل له من أزواجه بنين وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس، ويحتمل عندي أن قوله: من أزواجكم إنما هو على العموم والاشتراك، أي: من أزواج البشر جعل الله لهم البنين، ومنهم جعل الخدمة، فمن لم يكن له زوجة فقد جعل الله له حفدة وحصل تلك النعمة، وأولئك الحفدة هم من الأزواج، وهكذا تترتب النعمة التي تشمل جميع العالم، وتستقيم لفظة "الحفدة" على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة. وقالت فرقة: الحفدة هم البنون.
[ ص: 385 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا يستقيم على أن تكون الواو عاطفة صفة لهم، كما لو قال: جعلنا لهم بنين وأعوانا، أي: وهم لهم أعوان، فكأنه قال: وهم حفدة.
وقوله تعالى: ورزقكم من الطيبات يريد:الملذ من الأشياء التي تطيب لمن يرزقها، ولا يقتصر هنا على الحلال; لأنهم كفار لا يكتسبون بشرع، وفي هذه الآية رد على من قال من المعتزلة : "إن الرزق إنما يكون الحلال فقط"، ولهم تعلق في لفظة "من" إذ هي للتبعيض، فيقولون: ليس الرزق المعدد عليهم من جميع ما بأيديهم إلا ما كان حلالا.
وقرأ الجمهور: "يؤمنون"، وتجيء الآية -على هذه القراءة- توقيفا لمحمد عليه الصلاة والسلام على إيمانهم بالباطل وكفرهم بنعمة الله، وقرأ بالتاء من فوق، ورويت عن أبو عبد الرحمن ، على معنى: قل لهم يا محمد، ويجيء قوله بعد ذلك: عاصم وبنعمت الله هم يكفرون إخبارا مجردا عنهم، وحكما عليهم لا توفيقا، وقد يحتمل التوقيف أيضا على قلة اطراد في القول.