وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا
اختلف المتأولون في "ذي القربى" فقال الجمهور: الآية وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة. و"الحق" في هذه الآية ما يتعين له من وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال بنحو هذا: صلة الرحم، ، الحسن ، وعكرمة ، وغيرهم. وقال وابن عباس في هذه: هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعطائهم حقوقهم من بيت المال. علي بن الحسين
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والقول الأول أبين، ويعضده العطف بالمسكين وابن السبيل. و"ابن السبيل" هنا يعم الغني والفقير; إذ لكل واحد منهما حق وإن اختلفا، و"ابن السبيل" في آية الصدقة أخص.
و"التبذير": إنفاق المال في إفساد، أو في سرف في مباح، وهو من البذر، ويحتمل [ ص: 466 ] قوله تعالى: "المبذرين" أن يكون اسم جنس، ويحتمل أن يعني أهل مكة معينين، وذكره . وقوله تعالى: "إخوان" يعني: أنهم في حكمهم; إذ المبذر ساع في فساد، والشيطان أبدا ساع في فساد، والإخوان: جمع أخ من غير النسب، وقد يشذ، ومنه قوله تعالى في سورة النور: النقاش أو إخوانهن أو بني إخوانهن ، والإخوة: جمع أخ في النسب، وقد يشذ، ومنه قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة ، وقرأ ، الحسن "إخوان الشيطان" على الإفراد، وكذلك ثبت في مصحف والضحاك: ثم ذكر تبارك وتعالى كفر الشيطان ليقع التحذير من التشبه به في الإفساد مستوعبا بينا. أنس بن مالك.
وقوله تعالى: وإما تعرضن الآية. الضمير في "عنهم" عائد على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية -إذا سأله منهم أحد فلم يجد عنده ما يعطيه، فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض تأدبا منه في أن لا يرده تصريحا، وانتظارا لرزق من الله تعالى يأتي فيعطي منه -أن يكون يؤنسه بالقول الميسور، وهو الذي فيه الترجية بفضل الله، والتأنيس بالميعاد الحسن، والدعاء في توسعة الله تعالى وعطائه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد نزول هذه الآية -إذا لم يكن عنده ما يعطي-: "يرزقنا الله وإياكم من فضله"، فالرحمة -على هذا التأويل- الرزق المنتظر، وهذا قول ، ابن عباس ، ومجاهد ، وقال وعكرمة : الرحمة: الأجر والثواب، وإنما نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم، لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد، فكان يعرض عنهم رغبة الأجر في منعهم، لئلا يعينهم على فسادهم، فأمره الله تبارك وتعالى بأن يقول لهم قولا ميسورا يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح. ابن زيد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقال بعض أهل التأويل الأول: نزلت الآية في وصنفه، و "الميسور" مفعول من لفظة اليسر، تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته. عمار بن ياسر
[ ص: 467 ] وقوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة الآية. روي عن : "كل البصط" بالصاد، ورواه قالون الأعشى عن ، واستعير لليد المقبوضة جملة عن الإنفاق المتصفة بالبخل الغل إلى العنق، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط، ضد الغل، وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام. أبي بكر
وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث بكماله. والملامة هنا لاحقة ممن يطلب من المستحقين فلا يجد ما يعطي. و "المسحور": المقعد الذي قد استنفدت قوته، تقول: حسرت البعير إذا أتعبته حتى لم تبق له قوة، فهو حسير، ومنه قول الشاعر: "مثل البخيل والمتصدق.."
لهن الوجا لم كن عونا على السرى ... ولا زال منها طالع وحسير
ومنه: البصر الحسير، وهو الكال. وقال وغيره في معنى هذه الآية: لا تمسك عن النفقة فيما أمرتك به من الحق، ولا تبسطها كل البسط فيما نهيتك عنه. وقال ابن جريج : التبذير: النفقة في معصية، وقال قتادة : لو أنفق إنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيرا، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. مجاهد
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا فيه نظر، ولا يعطي البسط معنى لم يبح فيما نهي عنه، ولا يقال في المعصية: [ ص: 468 ] "ولا تبذر"، وإنما يقال: "ولا تنفق ولو باقتصاد وقوام"، ولله در ، ابن عباس رضي الله عنهما فإنهما قالا: وابن مسعود فهذه عبارة تعم المعصية والسرف المباح، وإنما نبهت هذه الآية على استفراغ الجهد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين; لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، ولئلا يضيع المنفق عيالا، ونحوه ومن كلام الحكمة: "ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع"، وهذه من آيات فقه الحال، ولا يبين حكمها إلا باعتبار شخص من الناس. "التبذير: الإنفاق في غير حق"،
قوله: إن ربك يبسط الرزق ، المعنى: كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد وإنفاق القوام، ولا يهمنك فقر من تراه كذلك، فإنه بمرأى من الله وبمسمع، وبمشيئة. و"يقدر" معناه: يضيق.
وقوله تعالى: إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ، أي: يعلم مصلحة قوم في الفقر، ويعلم مصلحة آخرين في الغنى. وقال بعض المفسرين -وحكاه -: إن الآية إشارة إلى حال الطبري العرب التي كانت يصلحها الفقر، وكانت إذا شبعت طغت وقتلت غيرها وأغارت، وإذا كان الجوع والقحط شغلهم.