أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون
وقوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض استئناف آخر مسوق للإنكار ، والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآيات التكوينية المنصوبة في الآفاق ، والأنفس الشاهدة بصحة مضمون الآيات المنزلة ، إثر ما نعي عليهم إخلالهم بالتفكر في شأنه صلى الله عليه وسلم ، والهمزة لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ ، والواو للعطف على المقدر المذكور ، أو على الجملة المنفية بلم .
والملكوت : الملك العظيم ; أي : أكذبوا بها ، أو ألم يتفكروا فيما ذكر ، ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السماوات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة .
وما خلق الله ; أي : وفيما خلق فيهما على أنه عطف على ملكوت ، وتخصيصه بهما لكمال ظهور عظم الملك فيهما ، أو وفي ملكوت ما خلق ، على أنه عطف على السماوات والأرض ، والتعميم لاشتراك الكل في الدلالة على عظم الملك في الحقيقة ، وعليه قوله تعالى : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء .
وقوله تعالى : من شيء بيان لما خلق ، مفيد لعدم اختصاص الدلالة المذكورة بجلائل المصنوعات دون دقائقها ، والمعنى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق فيهما من جليل ودقيق مما ينطلق عليه اسم الشيء ; ليدلهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى ، وبسائر شئونه التي ينطق بها تلك الآيات ، فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول ، فإن كل فرد من أفراد الأكوان مما عز وهان ، دليل لائح على الصانع المجيد ، وسبيل واضح إلى عالم التوحيد .
وقوله تعالى : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم عطف على ملكوت ، و" أن " مخففة من أن ، واسمها ضمير الشأن ، وخبرها " عسى " مع فاعلها الذي هو " أن يكون " ، واسم يكون أيضا ضمير الشأن ، والخبر " قد اقترب أجلهم " ، والمعنى : أولم ينظروا في أن الشأن ، عسى أن يكون الشأن قد اقترب أجلهم .
وقد جوز أن يكون اسم " يكون " أجلهم ، وخبرها " قد اقترب " على أنها جملة من فعل وفاعل ، هو ضمير " أجلهم " لتقدمه حكما ، وأيا ما كان فمناط الإنكار والتوبيخ تأخيرهم للنظر والتأمل ; أي : لعلهم يموتون عما قريب ، فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية ، وقد جوز أن يكون الأجل عبارة عن الساعة ، والإضافة إلى ضمير " هم " لملابستهم لها من جهة إنكارهم لها وبحثهم عنها .
وقوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية ، مترتب على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات ، وإخلالهم بالتفكر والنظر ، والباء متعلقة بيؤمنون ، وضمير بعده للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا ، والتذكير باعتبار كونها قرآنا ، أو بتأويلها بالمذكور .
وإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، والمعنى : أكذبوا بها ولم يتفكروا ، فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوال المصنوعات ; فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثل هذه الشواهد القوية ، كلا وهيهات .
وقيل : الضمير للقرآن ، والمعنى : فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان .
وقيل : هو إنكار وتبكيت لهم ، مترتب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذكر ، كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب ، [ ص: 300 ] فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ، وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا .
وقيل : الضمير لأجلهم ، والمعنى : فبأي حديث بعد انقضاء أجلهم يؤمنون . وقيل : للرسول صلى الله عليه وسلم على حذف مضاف ; أي : فبأي حديث بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس .