يا أيها الذين آمنوا : شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية؛ على وجه التلافي؛ لما فرط من المخلين بما ذكر من أصول الدين؛ وقواعده؛ التي عليها بني أساس المعاش؛ والمعاد؛ كتب عليكم ؛ أي: فرض؛ وألزم؛ عند مطالبة صاحب الحق؛ فلا يقدح فيه قدرة الولي على العفو؛ فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام؛ أو القاتلين؛ القصاص في القتلى ؛ أي: بسبب قتلهم؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أي: بسبب ربطها إياها؛ "إن امرأة دخلت النار في هرة؛ ربطتها"؛ الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ؛ كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء؛ وكان لأحدهما طول على الآخر؛ فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد؛ والذكر بالأنثى؛ فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت؛ فأمرهم أن يتباوؤوا؛ وليس فيها دلالة على عدم قتل الحر بالعبد؛ عند أيضا؛ لأن اعتبار المفهوم؛ حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجه سوى اختصاص الحكم بالمنطوق؛ وقد رأيت الوجه ههنا؛ وإنما يتمسك في ذلك هو الشافعي ومالك - رحمهما الله - بما روى - رضي الله عنه -: علي وبما روي عنه - رضي الله عنه - أنه قال: أن رجلا قتل عبده؛ فجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونفاه سنة؛ ولم يقده؛ "من السنة ألا يقتل مسلم بذي عهد؛ ولا حر بعبد"؛ وبأن أبا بكر - رضي الله عنهما - كانا لا يقتلان الحر بالعبد؛ بين أظهر الصحابة؛ من غير نكير؛ وبالقياس على الأطراف؛ وعندنا يقتل الحر بالعبد؛ لقوله (تعالى): وعمر أن النفس بالنفس ؛ فإن شريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب؛ على أنها شريعة لنا؛ ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة؛ وهي بالدين؛ أو بالدار؛ وهما سيان فيهما؛ وقرئ: "كتب"؛ على البناء للفاعل؛ ونصب "القصاص"؛ فمن عفي له من أخيه شيء ؛ أي: شيء من العفو؛ لأن "عفا" لازم؛ وفائدته الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كله؛ في إسقاط القصاص؛ وهو الواقع أيضا في العادة؛ إذ كثيرا ما يقع العفو من بعض الأولياء؛ فهو شيء من العفو؛ وقيل: معنى "عفي": ترك؛ و"شيء": مفعول به؛ وهو ضعيف؛ إذ لم يثبت "عفاه" بمعنى: "تركه"؛ بل "أعفاه"؛ وحمل العفو على المحو؛ كما في قول من قال:
ديار عفاها جور كل معاند ...
وقوله:
عفاها كل حنان ... كثير الوبل هطال
فيكون المعنى: فمن محي له من أخيه شيء؛ صرف للعبارة المتداولة في الكتاب والسنة عن معناها المشهور؛ المعهود؛ إلى ما ليس بمعهود فيهما؛ وفي استعمال الناس؛ فإنهم إلا فيما ذكر من قبل؛ و"عفا" يعدى بـ "عن"؛ إلى الجاني؛ والذنب؛ قال (تعالى): لا يستعملون العفو؛ في باب الجنايات؛ عفا الله عنك ؛ وقال: عفا الله عنها ؛ فإذا تعدى إلى الذنب قيل: عفوت لفلان عما جنى؛ كأنه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه؛ يعني: ولي الدم؛ وإيراده بعنوان الأخوة الثابتة بينهما؛ بحكم كونهما من بني آدم - عليه السلام -؛ لتحريك سلسلة الرقة؛ والعطف عليه؛ فاتباع بالمعروف ؛ فالأمر: اتباع؛ أو: فليكن اتباع؛ والمراد [ ص: 196 ] وصية العافي بالمسامحة؛ من غير تعسف؛ وقوله - عز وجل -: ومطالبة الدية بالمعروف؛ وأداء إليه بإحسان : حث للمعفو عنه على أن يؤديها بإحسان؛ من غير مماطلة؛ وبخس.
ذلك : أي: ما ذكر من الحكم؛ تخفيف من ربكم ورحمة ؛ لما فيه من التسهيل؛ والنفع؛ وقيل: كتب على اليهود القصاص وحده؛ وحرم عليهم العفو؛ والدية؛ وعلى النصارى العفو على الإطلاق؛ وحرم عليهم القصاص والدية؛ وخيرت هذه الأمة بين الثلاث؛ تيسيرا عليهم؛ وتنزيلا للحكم على حسب المنازل؛ فمن اعتدى بعد ذلك ؛ بأن قتل غير القاتل؛ بعد ورود هذا الحكم؛ أو قتل القاتل؛ بعد العفو؛ أو أخذ الدية؛ فله ؛ باعتدائه؛ عذاب أليم ؛ إما في الدنيا؛ فبالاقتصاص بما قتله بغير حق؛ وإما في الآخرة؛ فبالنار.