وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس أي: علما كما نقله الإمام عن الثعلبي رضي الله عنهما. فلا يخفى عليه شيء من أفعالهم الماضية، والمستقبلة من الكفر، والتكذيب، وفي قوله تعالى: ابن عباس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس إلى آخر الآية. تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات، منزلة من جانب الله سبحانه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، فتكذيبهم لبعضها مستلزم لتكذيب الباقي كما أن تكذيب الآخرين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترحة، والمراد بالـرؤيا ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من عجائب الأرض، والسماء حسبما ذكر في فاتحة السورة الكريمة، والتعبير عن ذلك بالرؤيا، إما لأنه لا فرق بينها وبين الرؤية، أو لأنها وقعت بالليل، أو لأن الكفرة قالوا: لعلها رؤيا، أي: وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة، وأية آية حقيقة بأن [ ص: 182 ] لا يتلعثم في تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم. والشجرة الملعونة في القرآن عطف على الرؤيا، والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازي، أو إبعادها عن الرحمة فإنها تنبت في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة، أي: وما جعلناها إلا فتنة لهم حيث أنكروا ذلك، وقالوا: إن محمدا يزعم أن الجحيم يحرق الحجارة، ثم يقول: ينبت فيها الشجر، ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم، فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر، وقطع الحديد المحماة فلا تضرها، ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندر تلقى في النار فلا تؤثر فيها، ويرون أن في كل شجر نارا. وقرئ: بالرفع على حذف الخبر، كأنه قيل: والشجرة الملعونة في القرآن كذلك. ونخوفهم بذلك، وبنظائرها من الآيات، فإن الكل للتخويف، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار فما يزيدهم التخويف. إلا طغيانا كبيرا متجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها، وفعل بهم ما فعل بأشياعهم، وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى، هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وقد حمل أكثر المفسرين الإحاطة على الإحاطة بالقدرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات التي اقترحوها; لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون: لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزات، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فكأنه قيل: اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته، فهو يحفظك منهم، فلا تهتم بهم، وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة. ألا يرى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس، مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك، وفتورا في حالك. وقد فسر الإحاطة بإهلاك قريش يوم بدر ، وإنما عبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر وقوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم ، وغير ذلك جريا على عادته سبحانه في أخباره، وأولت الرؤيا بما رآه صلى الله عليه وسلم في المنام من مصارعهم، لما روي بدر قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان . فتسامعت به أنه صلى الله عليه وسلم لما ورد ماء قريش ، فاستسخروا منه، وبما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل مكة ، وأخبر به أصحابه فتوجه إليها فصده عام المشركون الحديبية ، واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم، وكذا الرؤيا واقعا بمكة . وذكر الرؤيا، وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة، وأنت خبير بأنه يلزم منه أن يكون افتتان الناس بذلك واقعا بعد الهجرة ، وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية، وقد قيل: الرؤيا ما رآه صلى الله عليه وسلم في وقعة بدر من مضمون قوله تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولا ريب في أن تلك الرؤيا مع وقوعها في المدينة ما جعلت فتنة للناس.