وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي عليه السلام والاستهزاء به، فإن وصفهم له بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام كما في قوله تعالى: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إلخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر الجميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح. وقيل: نعت له عليه السلام من جهته تعالى مدحا له ورفعا لمحله عليه السلام وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك. وما قتلوه وما صلبوه حال واعتراض. ولكن شبه لهم روي أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير فأجمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل فيصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فألقى الله تعالى عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عيسى عليه السلام وألقي شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام. وقيل: إن طيطانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى عليه السلام فأخذ وقتل، وأمثال هذه الخوارق لا تستبعد في عصر النبوة. وقيل: إن اليهود لما هموا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فأخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيح وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطته عليه السلام لهم إلا قليلا و"شبه" مسندا إلى الجار والمجرور كأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى عليه السلام والمقتول أو في الأمر على قول من قال لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس أو إلى ضمير المقتول لدلالة "إنا قتلنا" على أن ثم مقتولا. وإن الذين اختلفوا فيه أي: في شأن عيسى عليه السلام، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود: إنه كان كاذبا فقتلناه حتما وتردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى [ ص: 252 ] فأين صاحبنا؟ وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء: إنه رفع إلى السماء وقال قوم: صلب الناسوت وصعد اللاهوت. لفي شك منه لفي تردد والشك: كما يطلق على ما لم يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن استثناء منقطع أي: لكنهم يتبعون الظن، ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل. وما قتلوه يقينا أي: قتلا يقينا كما زعموا بقولهم: إنا قتلنا المسيح. وقيل: معناه: وما علموه يقينا كما في قول من قال:
كذاك تخبر عنها العالمات بها ... وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا
من قولهم: قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا تبالغ علمك فيه، وفيه تهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نفي ذلك عنهم بالكلية.