ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون
(8 - 9) واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا [ ص: 39 ] التعريف النفاق الاعتقادي، والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "وفي رواية: " وإذا خاصم فجر
وأما فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام، مكة إلى المدينة، وبعد أن هاجر، فلما كانت وقعة " بدر " وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر بعضهم الإسلام خوفا ومخادعة، ولتحقن دماؤهم، وتسلم أموالهم، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين، أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها، لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم قال تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله: وما هم بمؤمنين لأن وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين. الإيمان الحقيقي، ما تواطأ عليه القلب واللسان،
فهؤلاء المنافقون، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك، فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب; لأن المخادع، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم، لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم، وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها; لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم شيئا وعباده المؤمنون، لا يضرهم كيدهم شيئا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان، فسلمت بذلك أموالهم [ ص: 40 ] وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة. والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع،
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
(10) وقوله: في قلوبهم مرض والمراد بالمرض هنا: مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن : مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع كلها من مرض الشبهات، والزنا ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات ، كما قال تعالى: القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله فيطمع الذي في قلبه مرض وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان والصبر عن كل معصية، فرفل في أثواب العافية.
وفي قوله عن المنافقين:
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين، وأنه بسبب ذنوبهم السابقة، يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم وقال تعالى: وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم فعقوبة المعصية، المعصية بعدها، كما أن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، قال تعالى: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى .