[ ص: 788 ] ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان
(36 ) أي : ( و ) لما دخل يوسف السجن ؛ كان في جملة من " دخل معه السجن فتيان " أي : شابان ، فرأى كل واحد منهما رؤيا ، فقصها على يوسف ليعبرها ، قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا وذلك الخبز تأكل الطير منه نبئنا بتأويله أي : بتفسيره وما يؤول إليه أمرهما ، وقولهما : إنا نراك من المحسنين أي : من أهل الإحسان إلى الخلق ، فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا كما أحسنت إلى غيرنا ، فتوسلا ليوسف بإحسانه .
(37 ) فـ قال لهما مجيبا لطلبهما : لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما أي : فلتطمئن قلوبكما فإني سأبادر إلى تعبير رؤياكما ، فلا يأتيكما غداؤكما أو عشاؤكما ، أول ما يجيء إليكما ؛ إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما .
ولعل يوسف عليه الصلاة والسلام قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه ؛ ليكون أنجع لدعوته وأقبل لهما .
ثم قال : ذلكما التعبير الذي سأعبره لكما ، مما علمني ربي أي : هذا من علم الله علمنيه وأحسن إلي به . وذلك إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون والترك كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه يكون لمن لم يدخل فيه أصلا ؛ فلا يقال : إن يوسف كان من قبل على غير ملة إبراهيم .
(38 واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب : ثم فسر تلك الملة [ ص: 789 ] بقوله : ما كان لنا أي : ما ينبغي ولا يليق بنا أن نشرك بالله من شيء بل نفرد الله بالتوحيد ، ونخلص له الدين والعبادة . ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس أي : هذا من أفضل مننه وإحسانه وفضله علينا ، وعلى من هداه الله كما هدانا ؛ فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام والدين القويم ؛ فمن قبله وانقاد له فهو حظه ، وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل . ولكن أكثر الناس لا يشكرون : فلذلك تأتيهم المنة والإحسان ، فلا يقبلونها ولا يقومون لله بحقه ، وفي هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى؛ فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها كلها من فضل الله وإحسانه ، حيث من علي بترك الشرك وباتباع ملة آبائي ، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما ، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت .
(39 ) ثم صرح لهما بالدعوة فقال : يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار أي : أأرباب عاجزة ضعيفة لا تنفع ولا تضر ولا تعطي ولا تمنع ، وهي متفرقة ما بين أشجار وأحجار وملائكة وأموات ، وغير ذلك من أنواع المعبودات التي يتخذها المشركون ، أتلك خير أم الله الذي له صفات الكمال ، الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله ؟ فلا شريك له في شيء من ذلك ، القهار الذي انقادت الأشياء لقهره وسلطانه ؛ فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها
(40 ) ومن المعلوم أن من هذا شأنه ووصفه خير من الآلهة المتفرقة التي هي مجرد أسماء لا كمال لها ولا أفعال لديها . ولهذا قال : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ؛ أي : كسوتموها أسماء و سميتموها آلهة ، وهي لا شيء ، ولا فيها من صفات الألوهية شيء ، ما أنزل الله بها من سلطان : بل أنزل الله السلطان بالنهي عن عبادتها وبيان بطلانها ، وإذا لم ينزل الله بها سلطانا ، لم يكن طريق ولا وسيلة ولا دليل لها . لأن الحكم لله : وحده ؛ فهو الذي يأمر وينهى ، ويشرع الشرائع ويسن الأحكام ، وهو الذي أمركم " أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم " أي : المستقيم الموصل إلى كل خير ، وما سواه من الأديان ؛ فإنها غير مستقيمة ، بل معوجة توصل إلى كل شر .
ولكن أكثر الناس لا يعلمون : [ ص: 790 ] حقائق الأشياء ، وإلا فإن الفرق بين عبادة الله وحده لا شريك له وبين الشرك به أظهر الأشياء وأبينها ، ولكن لعدم العلم من أكثر الناس بذلك حصل منهم ما حصل من الشرك . فيوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن لعبادة الله وحده وإخلاص الدين له ، فيحتمل أنهما استجابا وانقادا فتمت عليهما النعمة ، ويحتمل أنهما لم يزالا على شركهما ، فقامت عليهما -بذلك- الحجة .
(41 ) ثم إنه عليه السلام شرع يعبر رؤياهما ، بعدما وعدهما ذلك ، فقال :
يا صاحبي السجن أما أحدكما : وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ؛ فإنه يخرج من السجن ويسقي ربه خمرا أي : يسقي سيده الذي كان يخدمه خمرا ، وذلك مستلزم لخروجه من السجن ، وأما الآخر وهو : الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه .
فيصلب فتأكل الطير من رأسه : فإنه عبر عن الخبز الذي تأكله الطير بلحم رأسه وشحمه وما فيه من المخ ، وأنه لا يقبر ويستر عن الطيور ، بل يصلب ويجعل في محل تتمكن الطيور من أكله ، ثم أخبرهما بأن هذا التأويل الذي تأوله لهما أنه لا بد من وقوعه ، فقال : قضي الأمر الذي فيه تستفتيان أي : تسألان عن تعبيره وتفسيره .