ومن لمريم بابنها المنتظر، وصفاته ورسالته ومعجزاته وكلماته، هذه التي ذكرت ملحقة بالبشارة.. ينتقل السياق مباشرة إلى إحساسه - عليه السلام - بالكفر من بني إسرائيل ، وإلى طلبه الأنصار لإبلاغ دين الله: بشارة الملائكة
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .
وهنا فجوة كبيرة في السياق. فإنه لم يذكر أن عيسى قد ولد بالفعل; ولا أن أمه واجهت به القوم فكلمهم في المهد; ولا أنه دعا قومه وهو كهل; ولا أنه عرض عليهم هذه المعجزات التي ذكرت في البشارة لأمه "كما جاء في سورة مريم " .. وهذه الفجوات ترد في القصص القرآني ، لعدم التكرار في العرض من جهة، وللاقتصار على الحلقات والمشاهد المتعلقة بموضوع السورة وسياقها من جهة أخرى..
والآن لقد أحس عيسى الكفر من بني إسرائيل - بعد ما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر; والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها، وتؤيد من جاءت على يده. ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف..
عندئذ دعا دعوته:
قال: من أنصاري إلى الله ..
من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ من أنصاري إلى الله لأبلغ إليه، وأودي عنه؟
ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من أنصار ينهضون معه، ويحملون دعوته، ويحامون دونها، ويلغونها [ ص: 402 ] إلى من يليهم، ويقومون بعده عليها..
قال الحواريون: نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون .
فذكروا الإسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين ، وأشهدوا عيسى - عليه السلام - على إسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله.. أي: نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة.
ثم اتجهوا إلى ربهم يتصلون مباشرة به في هذا الأمر الذي يقومون عليه:
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين .
وفي هذا التوجه لعقد البيعة مع الله مباشرة لفتة ذات قيمة.. إن عهد المؤمن هو ابتداء مع ربه ، ومتى قام الرسول بإبلاغه فقد انتهت مهمة الرسول من ناحية الاعتقاد; وانعقدت البيعة مع الله، فهي باقية في عنق المؤمن بعد الرسول.. وفيه كذلك تعهد لله باتباع الرسول. فليس الأمر مجرد عقيدة في الضمير ولكنه اتباع لمنهج، والاقتداء فيه بالرسول. وهو المعنى الذي يركز عليه سياق هذه السورة - كما رأينا - ويكرره بشتى الأساليب.
ثم عبارة أخرى تلفت النظر في قول الحواريين : فاكتبنا مع الشاهدين ..
فأي شهادة وأي شاهدين؟
إن . شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء; وتؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.. وهو لا يؤدي هذه الشهادة حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة حية لهذا الدين. صورة يراها الناس فيرون فيها مثلا رفيعا، يشهد لهذا الدين بالأحقية في الوجود، وبالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من أنظمة وأوضاع وتشكيلات. المسلم المؤمن بدين الله مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين
وهو لا يؤدي هذه الشهادة كذلك حتى يجعل من هذا الدين قاعدة حياته، ونظام مجتمعه، وشريعة نفسه وقومه. فيقوم مجتمع من حوله، تدبر أموره وفق هذا المنهج الإلهي القويم.. وجهاده لقيام هذا المجتمع، وتحقيق هذا المنهج; وإيثاره الموت في سبيله على الحياة في ظل مجتمع آخر لا يحقق منهج الله في حياة الجماعة البشرية.. هو شهادته بأن هذا الدين خير من الحياة ذاتها وهي أعز ما يحرص عليه الأحياء! ومن ثم يدعى "شهيدا" ..
فهؤلاء الحواريون يدعون الله أن يكتبهم مع الشاهدين لدينه.. أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حية لهذا الدين; وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة، وإقامة مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج. ولو أدوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من "الشهداء" على حق هذا الدين.
وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام.. فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون . وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقيين ! ومن لم يؤد هذه الشهادة لدينه فكتمها فهو آثم قلبه. فأما إذا ادعى الإسلام ثم سار في نفسه غير سيرة الإسلام ; أو حاولها في نفسه، ولكنه لم يؤدها في المجال العام، ولم يجاهد لإقامة منهج الله في الحياة إيثارا للعافية، وإيثارا لحياته على حياة الدين، فقد قصر في شهادته أو أدى شهادة ضد هذا الدين. شهادة تصد الآخرين عنه. وهم يرون أهله يشهدون عليه لا له! وويل لمن يصد الناس عن دين الله [ ص: 403 ] عن طريق ادعائه أنه مؤمن بهذا الدين، وما هو من المؤمنين!.