والفقرة الثانية في هذا الدرس، تتناول جانبا من العلاقات المالية في المجتمع المسلم ، لتنظيم طرق التعامل في هذا الجانب; لضمان طهارة التعامل بين الأفراد عامة; ثم لتقرير حق النساء كالرجال في الملك والكسب - كل حسب نصيبه - وأخيرا لتنظيم التعامل في عقود الولاء التي كانت سارية في الجاهلية وفي القسم الأول من صدر الإسلام، لتصفية هذا النظام، وتخصيص الميراث بالأقارب; ومنع عقود الولاء الجديدة:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا. وكان ذلك على الله يسيرا إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا ..
إنها حلقة في سلسلة التربية، وحلقة في سلسلة التشريع.. والتربية والتشريع في المنهج الإسلامي متلازمان; أو متداخلان; أو متكاملان.. فالتشريع منظور فيه إلى التربية كما هو منظور فيه إلى تنظيم شؤون الحياة الواقعية; والتوجيهات المصاحبة للتشريع منظور فيها إلى تربية الضمائر; كما أنه منظور فيها إلى حسن تنفيذ التشريع، وانبعاث التنفيذ عن شعور بجدية هذا التشريع; وتحقق المصلحة فيه. والتشريع والتوجيه المصاحب منظور فيهما - معا - إلى ربط القلب بالله، وإشعاره بمصدر هذا المنهج المتكامل من التشريع والتوجيه..
وهذه هي خاصية المنهج الرباني للحياة البشرية.. هذا التكامل الذي يصلح الحياة الواقعية، ويصلح الضمير البشري في ذات الأوان..
وهنا في هذه الفقرة نجد وبيان الوجه الحلال للربح في تداول الأموال - وهو التجارة - ونجد إلى جانبه تصوير أكل الأموال بالباطل بأنه قتل للأنفس : وهلكة وبوار. ونجد إلى جانبه كذلك التحذير من عذاب الآخرة، ومس النار! .. وفي الوقت ذاته نجد التيسير والوعد بالمغفرة والتكفير، والعون على الضعف والعفو عن التقصير.. كذلك نجد تربية النفوس على عدم التطلع إلى ما أنعم الله على البعض ، والتوجه إلى الله - صاحب العطاء - وسؤال من بيده الفضل والعطاء. وذلك التوجيه مصاحب لتقرير حق الرجال ونصيبهم فيما اكتسبوا، وحق النساء ونصيبهن فيما اكتسبن، وهذا وذلك مصحوب بأن الله كان بكل شيء عليما.. كما أن بيان التصرف في عقود الولاء، والأمر بالوفاء بها نجده مصحوبا بأن الله كان على كل شيء شهيدا.. وهي لمسات وجدانية مؤثرة مصاحبة للتشريع، وتوجيهات تربوية من صنع العليم بالإنسان، وتكوينه النفسي، ومسالك نفسه ودروبها الكثيرة. النهي للذين آمنوا عن أكل أموالهم بينهم بالباطل
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم. إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا .
النداء للذين آمنوا، والنهي لهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
[ ص: 639 ] يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي; واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء: يا أيها الذين آمنوا .. واستحياء مقتضيات الإيمان. مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله; فإن كان قد نزل قبله، فقد كان تمهيدا للنهي عنه. فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل. وإن كان قد نزل بعده، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل. وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها، وجميع أنواع البيوع المحرمة - والربا في مقدمتها -
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري:
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ..
وهو استثناء منقطع.. تأويله: ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق..
ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل.. وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا - في سورة البقرة - من قول المرابين في وجه تحريم الربا: إنما البيع مثل الربا .. ورد الله عليهم في الآية نفسها: وأحل الله البيع وحرم الربا .. فقد كان المرابون يغالطون، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون. فيقولون: إن البيع - وهو التجارة - تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح. فهو - من ثم - مثل الربا.
فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا!
والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير; والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير.
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك; تقوم بترويج البضاعة وتسويقها; ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معا. وهي خدمة للطرفين، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة. انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد; ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة..
والربا على الضد من هذا كله. يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة. وهو في الوقت ذاته - كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عندما بلغ أوجه - يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة; وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية. ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز، المحطمة للكيان الإنساني.. وفوق كل شيء.. هذا الربح الدائم لرأس المال; وعدم مشاركته في نوبات الخسارة - كالتجارة - وقلة اعتماده على الجهد البشري، الذي يبذل حقيقة في التجارة.. إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي; وتقتضي الحكم عليه بالإعدام; كما حكم عليه الإسلام ! [ ص: 640 ] فهذه الملابسة بين الربا والتجارة، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل. وإن كان استثناء منقطعا كما يقول النحويون!.
ولا تقتلوا أنفسكم. إن الله كان بكم رحيما ..
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل; فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة; إنها عملية قتل.. يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها، حين ينهاهم عنها!
وإنها لكذلك. فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة: بالربا. والغش. والقمار. والاحتكار. والتدليس. والاختلاس. والاحتيال. والرشوة. والسرقة. وبيع ما ليس يباع: كالعرض. والذمة. والضمير. والخلق. والدين! - مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء - ما تروج هذه الوسائل في جماعة، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المردية للنفوس; وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم; ومن تدارك ضعفهم الإنساني، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل، معتدين ظالمين، تهديدهم بعذاب الآخرة; بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها. الآكل فيهم والمأكول; فالجماعة كلها متضامنة في التبعة; ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة:
ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما، فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا .
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها - في الدنيا والآخرة - وهو يشرع لها ويوجهها; ويقيم من النفس حارسا حذرا يقظا على تلبية التوجيه، وتنفيذ التشريع; ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيبا لأنها كلها مسؤولة; وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها.. وكان ذلك على الله يسيرا فما يمنع منه مانع، ولا يحول دونه حائل، ولا يتخلف، متى وجدت أسبابه، عن الوقوع!
وفي مقابل يعدهم الله برحمته، وغفرانه، وتجاوزه عما عدا الكبائر; مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرا عليهم، وتطمينا لقلوبهم وعونا لهم على التحاجز عن النار; باجتناب الفواحش الكبار: اجتناب "الكبائر" - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل -
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم، وندخلكم مدخلا كريما .
ألا ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة، والطاعة. وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود، والأوامر والنواهي، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة وإنشاء مجتمع نظيف سليم.
إن هذا الهتاف، وهذه التكاليف، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه; ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها; ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة. [ ص: 641 ] ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة. وبين الأشواق والضرورات. وبين الدوافع والكوابح. وبين الأوامر والزواجر. وبين الترغيب والترهيب. وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة..
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله; وأن تخلص حقا في هذا الاتجاه، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه.. فأما بعد ذلك.. فهناك رحمة الله.. هناك رحمة الله ترحم الضعف، وتعطف على القصور; وتقبل التوبة، وتصفح عن التقصير; وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين، في إيناس وفي تكريم..
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه. أما مقارفة هذه الكبائر وهي واضحة ضخمة بارزة; لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة; ولم تستنفد الطاقة في المقاومة.. وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه.. وقد قال فيها: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. وعدهم من المتقين .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله، متى اجتنبت الكبائر; وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين.
أما ما هي الكبائر.. فقد وردت أحاديث تعدد أنواعا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم "الكبائر" من الذنوب. وإن كانت تختلف عددا ونوعا بين بيئة وبيئة، وبين جيل وجيل!
ونذكر هنا قصة عن - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية. تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس: عمر بن الخطاب
قال : حدثني ابن جرير ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية ابن عون ، عن أن ناسا سألوا الحسن عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها; فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه. فلقي - رضي الله عنه - فقال: متى قدمت؟ فقال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه. فقال أمير المؤمنين : إن ناسا لقوني عمر بمصر ، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله، أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال: فاجمعهم لي. قال: فجمعتهم له. قال أبو عون : أظنه قال: في بهو.. فأخذ أدناهم رجلا; فقال أنشدك الله، وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله! قال: نعم. قال: فهل أحصيته في نفسك؟ فقال: اللهم لا ولو قال: نعم، لخصمه! قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ .. ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال: ثكلت أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال: وتلا: عمر إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم [ ص: 642 ] سيئاتكم ... الآية. ثم قال: هل علم أهل المدينة ؟ أو قال: هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا: لا. قال: لو علموا لوعظت بكم !" .
فهكذا كان - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع; وقد قوم القرآن حسه; وأعطاه الميزان الدقيق.. "قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات!" ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات، وبذل الجهد في هذا الوفاء.. إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال. عمر