ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير :
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت. لبئس ما كانوا يعملون . .
والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان ، وأكل الحرام . وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ، ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد ; وتسقط القيم ; ويسيطر الشر . . وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال ، فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر . . إلى الإثم والعدوان ، قويهم وضعيفهم سواء . . فالإثم والعدوان - في المجتمعات الهابطة الفاسدة - لا يقتصران على الأقوياء ; بل يرتكبهما كذلك الضعفاء . . فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم . وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء ; إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا . ولكن يعتدي بعضهم على بعض . ويعتدون على حرمات الله . لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم ; فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد ; والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات !
وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام . . وكذلك أكلهم للحرام . . فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن ! لبئس ما كانوا يعملون !
ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ; وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة ، والأحبار القائمين على أمر العلم الديني . . سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه :
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت! لبئس ما كانوا يصنعون! . .
فهذه السمة - سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان - هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار . . وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . . كما حكى عنهم القرآن الكريم . .
إن ; وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر . سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال : كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ووصف بني إسرائيل فقال : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . . فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين .
أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار ، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ، الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله .
وإنه لصوت النذير لكل أهل دين . فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه [ ص: 929 ] بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والأمر كما قلنا من قبل في الظلال ، يقتضي "سلطة " تأمر وتنهى ، والأمر والنهي أمر غير الدعوة . فالدعوة بيان ، والأمر والنهي سلطان . وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ; فلا يكون مطلق كلام !