ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : أنهم فريقان. فريق أمي جاهل، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا، وإلا أماني في النجاة من العذاب، بما أنهم شعب الله المختار، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة، ويكتم منه ما يشاء، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله.. كل هذا ليربح ويكسب، ويحتفظ بالرياسة والقيادة:
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله، ليشتروا به ثمنا قليلا. فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون ..
فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق، وأن يستقيموا على الهدى، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين. وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم. الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق!.
من تلك الأماني التي لا تستقيم مع عدل الله، ولا تتفق مع سنته، ولا تتمشى مع التصور الصحيح للعمل والجزاء.. أن يحسبوا أنهم ناجون من العذاب مهما فعلوا، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات يخرجون بعدها إلى النعيم.. علام يعتمدون في هذه الأمنية؟ علام يحددون الوقت كأنهم مستوثقون؟ وكأنها معاهدة محدودة الأجل معلومة الميقات؟ لا شيء إلا أماني الأميين الجهال، وأكاذيب المحتالين العلماء! الأماني التي يلجأ إليها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة، حين يطول بهم الأمد، وينقطع ما بينهم وبين حقيقة دينهم، فلا يبقى لهم منه إلا اسمه وشكله، دون موضوعه وحقيقته ويظنون أن هذا يكفيهم للنجاة من العذاب بحكم ما يعلنونه بألسنتهم من أنهم على دين الله:
وقالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة. قل: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ ..
وهذا هو التلقين الإلهي للحجة الدامغة: أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده؟ .. فأين هو هذا العهد؟
أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ .. وهذا هو الواقع. فالاستفهام هنا للتقرير. ولكنه في صورة الاستفهام [ ص: 86 ] يحمل كذلك معنى الإنكار والتوبيخ!.
هنا يأتيهم الجواب القاطع والقول الفصل في هذه الدعوى، في صورة كلية من كليات التصور الإسلامي، تنبع من فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان: إن الجزاء من جنس العمل ، ووفق هذا العمل.
بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ..
ولا بد أن نقف قليلا أمام ذلك التصوير الفني المعجز لحالة معنوية خاصة، وأمام هذا الحكم الإلهي الجازم نكشف عن شيء من أسبابه وأسراره:
بلى! من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته.. ..
الخطيئة كسب؟ إن المعنى الذهني المقصود هو اجتراح الخطيئة. ولكن التعبير يومئ إلى حالة نفسية معروفة..
إن الذي يجترح الخطيئة إنما يجترحها عادة وهو يلتذها ويستسيغها; ويحسبها كسبا له - على معنى من المعاني - ولو أنها كانت كريهة في حسه ما اجترحها، ولو كان يحس أنها خسارة ما أقدم عليها متحمسا، وما تركها تملأ عليه نفسه، وتحيط بعالمه; لأنه خليق لو كرهها وأحس ما فيها من خسارة أن يهرب من ظلها - حتى لو اندفع لارتكابها - وأن يستغفر منها، ويلوذ إلى كنف غير كنفها. وفي هذه الحالة لا تحيط به، ولا تملأ عليه عالمه، ولا تغلق عليه منافذ التوبة والتكفير.. وفي التعبير: وأحاطت به خطيئته .. تجسيم لهذا المعنى. وهذه خاصية من خواص التعبير القرآني، وسمة واضحة من سماته; تجعل له وقعا في الحس يختلف عن وقع المعاني الذهنية المجردة، والتعبيرات الذهنية التي لا ظل لها ولا حركة. وأي تعبير ذهني عن اللجاجة في الخطيئة ما كان ليشع مثل هذا الظل الذي يصور المجترح الآثم حبيس خطيئته: يعيش في إطارها، ويتنفس في جوها، ويحيا معها ولها.
عندئذ.. عندما تغلق منافذ التوبة على النفس في سجن الخطيئة.. عندئذ يحق ذلك الجزاء العادل الحاسم:
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ..
ثم يتبع هذا الشطر بالشطر المقابل من الحكم.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ..
فمن مقتضيات الإيمان أن ينبثق من القلب في صورة العمل الصالح .. وهذا ما يجب أن يدركه من يدعون الإيمان.. وما أحوجنا - نحن الذين نقول أنا مسلمون - أن نستيقن هذه الحقيقة: أن فأما الذين يقولون: إنهم مسلمون ثم يفسدون في الأرض، ويحاربون الصلاح في حقيقته الأولى وهي إقرار منهج الله في الأرض، وشريعته في الحياة، وأخلاقه في المجتمع، فهؤلاء ليس لهم من الإيمان شيء، وليس لهم من ثواب الله شيء، وليس لهم من عذابه واق ولو تعلقوا بأماني كأماني اليهود التي بين الله لهم وللناس فيها هذا البيان. الإيمان لا يكون حتى ينبثق منه العمل الصالح.