[ ص: 995 ] يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي .وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير
[ ص: 996 ] هذا الدرس بطوله بقية في تصحيح العقيدة ; وتقويم ما دخل عليها عند النصارى من انحرافات أخرجتها عن أصلها السماوي عند قاعدتها الأساسية . إذ أخرجتها من التوحيد المطلق الذي جاء به عيسى - عليه السلام - كما جاء به كل رسول قبله ، إلى ألوان من الشرك ، لا علاقة لها أصلا بدين الله .
ومن ثم فإن هذا الدرس كذلك يستهدف تقرير حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية - كما هي في التصور الإسلامي - تقرير هذه الحقيقة من خلال هذا المشهد العظيم الذي يعرضه ; والذي يقرر فيه عيسى - عليه السلام - على ملأ من الرسل ، ومن البشر جميعا ، أنه لم يقل لقومه شيئا مما زعموه من ألوهيته ومن تأليه أمه ; وأنه ما كان له أن يقول من هذا الشرك كله شيئا !
والسياق القرآني يعرض هذه الحقيقة في مشهد تصويري من "مشاهد القيامة " التي يعرضها القرآن الكريم عرضا حيا ناطقا ، موحيا مؤثرا ، عميق التأثير ، يهتز له الكيان البشري وهو يتلقاه كأنما يشهده اللحظة في الواقع المنظور . الواقع الذي تراه العين ، وتسمعه الأذن . وتتجلى فيه الانفعالات والسمات النابضة بالحياة فها نحن أولاء أمام المشهد العظيم : يوم يجمع الله الرسل، فيقول ماذا أجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب
: يوم يجمع الله الرسل الذين فرقهم في الزمان فتتابعوا على مداره ; وفرقهم في المكان فذهب كل إلى قريته ; وفرقهم في الأجناس فمضى كل إلى قومه . . يدعون كلهم بدعوة واحدة على اختلاف الزمان والمكان والأقوام ; حتى جاء خاتمهم - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الواحدة لكل زمان ومكان وللناس كافة من جميع الأجناس والألوان . .
هؤلاء الرسل إلى شتى الأقوام ، في شتى الأمكنة والأزمان . . ها هو ذا مرسلهم فرادى ، يجمعهم جميعا ; ويجمع فيهم شتى الاستجابات ، وشتى الاتجاهات . وها هم أولاء . . نقباء البشرية في حياتها الدنيا ; ومعهم رسالات الله إلى البشرية في شتى أرجائها ، ووراءهم استجابات البشرية في شتى أعصارها . هؤلاء هم أمام الله . . رب البشرية - سبحانه - في مشهد يوم عظيم .
وها هو ذا المشهد ينبض بالحياة :
يوم يجمع الله الرسل. فيقول: ماذا أجبتم؟ .
ماذا أجبتم؟ . . فاليوم تجمع الحصيلة ، ويضم الشتات ، ويقدم الرسل حساب الرسالات ، وتعلن النتائج على رؤوس الأشهاد .
ماذا أجبتم؟ . والرسل بشر من البشر ; لهم علم ما حضر ، وليس لديهم علم ما استتر .
لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى ; فاستجاب منهم من استجاب ، وتولى منهم من تولى . . وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى . فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده . . وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف ; والذي يهابونه أشد من يهاب ; والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير . .
إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم ، على مشهد من الملأ الأعلى ، وعلى مشهد من الناس أجمعين . الاستجواب الذي يراد به المواجهة . . مواجهة البشرية برسلها ; ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة [ ص: 997 ] برسلهم الذين كانوا يكذبونهم . ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله ; وهاهم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون .
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده ; وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدبا وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
قالوا: لا علم لنا. إنك أنت علام الغيوب .
فأما سائر الرسل - غير عيسى عليه السلام - فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر ; ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه . سبحانه . . فما يزيد السياق شيئا في هذا المشهد عنهم . . إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه .