بعد هذا التمهيد التقريري الطويل تجيء قضية الذبائح، مبنية على القاعدة الأساسية التي أقامها ذلك التمهيد التقريري الطويل
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. إن كنتم بآياته مؤمنين.. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم - إلا ما اضطررتم إليه - وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم، إن ربك هو أعلم بالمعتدين. وذروا ظاهر الإثم وباطنه، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ..
وقبل أن ندخل في تفصيل هذه الأحكام من الناحية الفقهية، يهمنا أن نبرز المبادئ الأساسية الاعتقادية التي تقررها.
إنه يأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه. والذكر يقرر الوجهة ويحدد الاتجاه. ويعلق إيمان الناس بطاعة هذا الأمر الصادر إليهم من الله:
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. إن كنتم بآياته مؤمنين .. [ ص: 1197 ] ثم يسألهم: وما لهم في الامتناع من الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وقد جعله الله لهم حلالا؟ وقد بين لهم فانتهى بهذا البيان كل قول في حله وحرمته ; وفي الأكل منه أو تركه؟ الحرام الذي لا يأكلونه إلا اضطرارا؟
وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه؟ ..
ولما كانت هذه النصوص تواجه قضية حاضرة إذ ذاك في البيئة، حيث كان المشركون يمتنعون من ; ويحلون ذبائح أحلها الله ويزعمون أن هذا هو شرع الله! - فإن السياق يفصل في أمر هؤلاء ذبائح حرمها الله - فيقرر أنهم إنما يشرعون بأهوائهم بغير علم ولا اتباع، ويضلون الناس بما يشرعونه لهم من عند أنفسهم، ويعتدون على المشترعين المفترين على الله، بمزاولتهم لخصائص الألوهية وهم عبيد: ألوهية الله وحاكميته
وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم.. إن ربك هو أعلم بالمعتدين ..
ويأمرهم بأن يتركوا الإثم كله - ظاهره وخافيه - ومنه هذا الذي يزاولونه من إضلال الناس بالهوى وبغير علم ; وحملهم على شرائع ليست من عند الله، وافتراء أنها شريعة الله! ويحذرهم مغبة هذا الإثم الذي يقترفونه:
وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ..
ثم ينهى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح التي كانوا يذكرون عليها أسماء آلهتهم ; أو ينحرونها للميسر ويستقسمونها بالأزلام ; أو من الميتة التي كانوا يجادلون المسلمين في تحريمها، يزعمون أن الله ذبحها! فكيف يأكل المسلمون مما ذبحوا بأيديهم، ولا يأكلون مما ذبح الله؟! وهو تصور من تصورات الجاهلية التي لا حد لسخفها وتهافتها في جميع الجاهليات! وهذا ما كانت الشياطين - من الإنس والجن - توسوس به لأوليائها ليجادلوا المسلمين فيه من أمر هذه الذبائح مما تشير إليه الآيات:
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه - وإنه لفسق - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم.. وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.. ..
وأمام هذا التقرير الأخير نقف، لنتدبر هذا الحسم وهذه الصراحة في شأن الحاكمية والطاعة والاتباع في هذا الدين..
إن النص القرآني لقاطع في أن طاعة المسلم لأحد من البشر في جزئية من جزئيات التشريع التي لا تستمد من شريعة الله، ولا تعتمد على الاعتراف له وحده بالحاكمية.. أن طاعة المسلم في هذه الجزئية تخرجه من الإسلام لله، إلى الشرك بالله.
وفي هذا يقول ابن كثير:
" وقوله تعالى: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .. أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه، إلى قول غيره، فقدمتم عليه غيره.. فهذا هو الشرك.. كقوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ..
الآية. وقد روى في تفسيرها عن الترمذي أنه قال: عدي بن حاتم . يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: " بلى! إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال. فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "
كذلك روى ابن كثير عن في قوله تعالى: السدي اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ...
الآية قوله: (استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا [ ص: 1198 ] إلها واحدا أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ) ..
فهذا قول وذاك قول السدي ابن كثير.. وكلاهما يقرر في حسم وصرامة ووضوح - مستمدة من حسم النص القرآني وصرامته ووضوحه، ومن حسم التفسير النبوي للقرآن وصرامته ووضوحه كذلك - أن من أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه، ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلما ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا.. مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه. بينما هو يتلقى من غير الله، ويطيع غير الله.
وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم - في ضوء هذه التقريرات الحاسمة - فإننا نرى ولا شيء غير الجاهلية والشرك - إلا من عصم الله، فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية ; ولم يقبل منها شرعا ولا حكما ... إلا في حدود الإكراه.. الجاهلية والشرك -
فأما الحكم الفقهي المستفاد من قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق.. فيما يتعلق بحل الذبائح وحرمتها عند التسمية وعدم التسمية فقد لخصها ابن كثير في التفسير في هذه الفقرات قال:
" استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن وإن كان الذابح مسلما ".. الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها،
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قال: لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة. وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا. وهو مروي عن ابن عمر، مولاه، ونافع وعامر الشعبي، وهو رواية عن الإمام ومحمد بن سيرين. ورواية عن مالك، نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين. وهو اختيار أحمد بن حنبل، أبي ثور، واختار ذلك وداود الظاهري. أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه الأربعين، واحتجوا لمذهبهم بهذه الآية، وبقوله في آية الصيد: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه .. ثم قد أكد ذلك بقوله: وإنه لفسق والضمير قيل: عائد على الأكل، وقيل: عائد على الذبح لغير الله. وبالأحاديث الواردة في كحديثي الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: . وهما في الصحيحين. وحديث " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " رافع بن خديج: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه . وهو في الصحيحين أيضا ... "
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركها عمدا أو نسيانا لا يضر.
وهذا مذهب الإمام رحمه الله، وجميع أصحابه. ورواية عن الإمام الشافعي، نقلها عنه أحمد حنبل. وهو رواية عن الإمام ونص على ذلك مالك، أشهب بن عبد العزيز من أصحابه. وحكي عن ابن عباس، وأبي هريرة، والله أعلم. وحمل وعطاء بن أبي رباح. الآية الكريمة: الشافعي ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق على كقوله تعالى: ما ذبح لغير الله أو فسقا أهل لغير الله به . وقال عن ابن جريج عطاء: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .. قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان، وينهى عن وهذا المسلك الذي طرقه الإمام ذبائح المجوس.. قوي ... الشافعي
وقال حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي حاتم يحيى بن المغيرة، أنبأنا عن جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير في الآية: ابن عباس ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال: هي الميتة. وقد استدل لهذا المذهب بما رواه [ ص: 1199 ] في المراسيل من حديث أبو داود ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ذكر اسم الله أو لم يذكر. إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " ذبيحة المسلم حلال، .. وهذا مرسل يعضد بما رواه " عن الدارقطني أنه قال: " إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل". فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " . ابن عباس
المذهب الثالث: إن لم يضر، وإن تركها عمدا لم تحل.. هذا هو المشهور من مذهب الإمام ترك البسملة على الذبيحة نسيانا مالك وبه يقول وأحمد بن حنبل، أبو حنيفة وأصحابه. وهو محكي عن وإسحاق بن راهويه. علي، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاووس، والحسن البصري، وأبي مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ...
قال وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عينت به. وعلى هذا قول ابن جرير: وعامة أهل العلم. وروي عن مجاهد الحسن البصري ما حدثنا به وعكرمة ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة قالا: قال الله: والحسن البصري، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وقال: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فنسخ، واستثني من ذلك فقال: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم وقال قرأ علي ابن أبي حاتم: العباس بن الوليد بن يزيد، حدثنا محمد بن شعيب، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن قال: أنزل الله في القرآن: مكحول ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال: اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فنسخها بذلك، وأحل ثم قال طعام أهل الكتاب. والصواب: أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين ابن جرير: وهذا الذي قاله صحيح. ومن أطلق من السلف النسخ هنا، فإنما أراد التخصيص، والله سبحانه وتعالى أعلم ... انتهى. تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه..