[ ص: 1243 ] (7 ) سورة الأعراف مكية
وآياتها ست ومائتان
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه سورة مكية - كسورة الأنعام - موضوعها الأساسي هو موضوع القرآن المكي . . العقيدة . . ولكن ما أشد اختلاف المجالين اللذين تتحرك فيهما السورتان في معالجة هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة !
إن كل سورة من سور القرآن ذات شخصية متفردة ، وذات ملامح متميزة ، وذات منهج خاص ، وذات أسلوب معين ، وذات مجال متخصص في علاج هذا الموضوع الواحد ، وهذه القضية الكبيرة .
إنها كلها تتجمع على الموضوع والغاية ، ثم تأخذ بعد ذلك سماتها المستقلة ، وطرائقها المتميزة ومجالها المتخصص في علاج هذا الموضوع ، وتحقيق هذه الغاية .
إن الشأن في سور القرآن - من هذه الوجهة - كالشأن في نماذج البشر التي جعلها الله متميزة . . كلهم إنسان ، وكلهم له خصائص الإنسانية ، وكلهم له التكوين العضوي والوظيفي الإنساني . . ولكنهم بعد ذلك نماذج منوعة أشد التنويع . نماذج فيها الأشباه القريبة الملامح ، وفيها الأغيار التي لا تجمعها إلا الخصائص الإنسانية العامة !
هكذا عدت أتصور سور القرآن . وهكذا عدت أحسها ، وهكذا عدت أتعامل معها . بعد طول الصحبة ، وطول الألفة ، وطول التعامل مع كل منها وفق طباعه واتجاهاته ، وملامحه وسماته !
وأنا أجد في سور القرآن - تبعا لهذا - وفرة بسبب تنوع النماذج ، وأنسا بسبب التعامل الشخصي الوثيق ، ومتاعا بسبب اختلاف الملامح والطباع ، والاتجاهات والمطالع !
إنها أصدقاء . . كلها صديق . . وكلها أليف . . وكلها حبيب . . وكلها ممتع . . وكلها يجد القلب عنده ألوانا من الاهتمامات طريفة ، وألوانا من المتاع جديدة ، وألوانا من الإيقاعات ، وألوانا من المؤثرات ، تجعل لها مذاقا خاصا ، وجوا متفردا .
ومصاحبة السورة من أولها إلى آخرها رحلة . . رحلة في عوالم ومشاهد ، ورؤى وحقائق ، وتقريرات وموحيات ، وغوص في أعماق النفوس ، واستجلاء لمشاهد الوجود . . ولكنها كذلك رحلة متميزة المعالم في كل سورة ومع كل سورة .
[ ص: 1244 ] إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة . وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة . . ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها ; وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها ; وتواجه الجاهلية العربية في حينها - وكل جاهلية أخرى كذلك - مواجهة صاحب الحق الذي يصدع بالحق ; وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها - في الجزء السابع وفي هذا الجزء أيضا - ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف . . بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج ، وتسلك ذلك الطريق . . نجد سورة الأعراف - وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك - تأخذ طريقا آخر ، وتعرض موضوعها في مجال آخر . . إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري . . في مجال رحلة البشرية كلها مبتدئة بالجنة والملأ الأعلى ، وعائدة إلى النقطة التي انطلقت منها . . وفي هذا المدى المتطاول تعرض " موكب الإيمان " من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ . يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل ، وقبيلا بعد قبيل . . ويرسم سياق السورة في تتابعه : كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة . .
إنها رحلة طويلة طويلة . . ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة ، وتقف منها عند معظم المعالم البارزة ، في الطريق المرسوم . ملامحه واضحة ، ومعالمه قائمة ، ومبدؤه معلوم ، ونهايته مرسومة . . والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة . ثم تقطعه راجعة . . إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى . .
لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء ، ممثلة في شخصين اثنين . . آدم وزوجه . . أبوي البشر . . وانطلق معهما الشيطان . مأذونا من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ومأخوذا عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك . ومبتلى كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ; ليأخذوا عهد الله بقوة أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة ; وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله ، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم !
انطلقت البشرية من هناك . . من عند ربها سبحانه . . انطلقت إلى الأرض . تعمل وتسعى ، وتكد وتشقى ، وتصلح وتفسد ، وتعمر وتخرب ، وتتنافس وتتقاتل ، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد . . ثم ها هي ذي تؤوب ! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال . . ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة . . من ورد وشوك . ومن غال ورخيص ، ومن ثمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات . ها هي ذي تعود في أصيل اليوم . . فقد انطلقت في مطلعه ! . . وها نحن أولاء نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال - أيا كانت هذه الأحمال - ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها . . تظلع في الطريق ، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير . حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان ، ووقف يرتقب في خشية ووجل . . إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا . . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ! وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ، ويلقى جزاءه . . ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية ، فوجا فوجا . إلى جنة أو إلى نار . حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين . فقد كانوا هنالك في هذه الأرض مغتربين : كما [ ص: 1245 ] بدأكم تعودون . فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ، إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون . .
وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل . معارك الهدى والضلال . معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين ، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين . ويعرض الصراع المتكرر ; والمصائر المتشابهة . وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها ; وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها . وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين . حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير . . وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة . فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة ! كلمة تعقيب . للإنذار والتذكير . . ثم يمضي .
إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا . تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية ، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول . . حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى . . وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام - وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود - وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام ، واضح التميز ، مختلف الحدود .
ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين . فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع . وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة ; وبينما تبلغ المشاهد دائما درجة اللألاء والتوهج والالتماع ، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع . . إذا السياق في الأعراف يمضي هادئ الخطو ، سهل الإيقاع ، تقريري الأسلوب . وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، حتى تؤوب ! وقد يشتد الإيقاع أحيانا في مواقف التعقيب ; ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب !
. . وهما - بعد - سورتان مكيتان من القرآن . . ! ! !
ولعله يحسن هنا أن نستعرض منهج السورة في معالجة موضوع العقيدة في صورة حركة لهذه العقيدة في تيار التاريخ البشري . .
إن السورة لا تعرض قصة هذه العقيدة في التاريخ البشري ، ولا تعرض رحلة البشرية منذ نشأتها الأولى إلى عودتها الأخيرة . . مجرد عرض في أسلوب قصصي . . إنما هي تعرضها في صورة معركة مع الجاهلية . . ومن ثم فإنها تعرضها في مشاهد ومواقف ; وتواجه بهذه المشاهد والمواقف ناسا أحياء كانوا يواجهون هذا القرآن فيواجههم هذا القرآن ; بتلك القصة الطويلة ; ويخاطبهم بما فيها من عبر ; مذكرا ومنذرا ; ويخوض معهم معركة حقيقية حية . . ومن ثم تجيء التعقيبات في السياق عقب كل مرحلة أساسية ; موجهة لأولئك الأحياء الذين كان القرآن يخوض معهم المعركة ; وموجهة كذلك إلى أمثالهم ممن يتخذون موقفهم على مدار التاريخ .
إن القرآن لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة . ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلا . . إنه يتحرك حركة واقعية حية في وسط واقعي حي . إنه لا يقرر حقائقه للنظر المجرد ، ولا يقص قصصه لمجرد المتاع الفني !
[ ص: 1246 ] ويركز السياق على التذكير والإنذار في وقفاته للتعقيب . كما يركز على نقطة الانطلاق ، وعلى نقطة المآب . وبينهما يمر بقصص قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب . ثم يركز تركيزا شديدا على قصة قوم موسى .
وفي هذه التقدمة للسورة لا نملك إلا أن نعرض نماذج مجملة لمواضع التركيز في السورة :
تبدأ السورة على هذا النحو :
المص . كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه ، لتنذر به ، وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء . قليلا ما تذكرون . .
فهي منذ اللحظة الأولى خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطاب لقومه الذين يجاهدهم بهذا القرآن . . وكل ما يجيء في السورة بعد ذلك من قصص ، ومن وصف لرحلة البشرية الطويلة ، وعودتها من الرحلة المرسومة ، وكل ما يعرض من مشاهد في صفحة الكون وفي يوم القيامة . . إنما هو خطاب غير مباشر ، - وأحيانا مباشر - للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه للإنذار والتذكير ، كما يشير هذا المطلع القصير .
وقول الله - سبحانه - لرسوله صلى الله عليه وسلم :
كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه . .
يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ; ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا ، دونه صعاب جسام . . يستهدف إنشاء عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام المغايرة لما هو كائن في دنيا الناس . ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس ، ومن تصورات الجاهلية في العقول ، ومن قيم الجاهلية في الحياة ، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب ، ما يحس معه أن كلمة الحقيقة التي يحملها ، غريبة على البيئة ، ثقيلة على النفوس ; مستنكرة في القلوب . . كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم من التصورات والأفكار ، والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد ، والأوضاع والارتباطات . . ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل ، الحرج الذي يدعو الله - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شيء منه ; وأن يمضي به ينذر ويذكر ; ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار ، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء . .
ولأن الأمر كذلك من الثقل ومن الغرابة ومن النفرة ومن المقاومة لهذا التغيير الكامل الشامل الذي تستهدفه هذه العقيدة في حياة الناس وتصوراتهم ، فإن السياق يباكر القوم بالتهديد القاصم ، ويذكرهم بمصائر المكذبين ، ويعرض عليهم مصارع الغابرين . . جملة قبل أن يأخذ في القصص المفصل عنهم في مواضعه من السياق :
وكم من قرية أهلكناها ، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون . فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين . فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون . .
وبعد هذه المقدمة تبدأ القصة . . تبدأ بالحديث عن التمكين للجنس البشري في الأرض . . وذلك بما أودع الله هذا الكون من خصائص وموافقات تسمح بحياة هذا الجنس وتمكينه في الأرض . وبما أودع الله هذا الجنس من خصائص وموافقات متوافقة مع الكون ; ومن قدرة على التعرف إلى نواميسه واستخدامها ; [ ص: 1247 ] والانتفاع بطاقاته ومقدراته ومدخراته وأقواته :
ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش . قليلا ما تشكرون . .
وليس هذا إلا التمهيد لعرض قصة النشأة الأولى ، وتصوير نقطة الانطلاق التي بدأت منها البشرية رحلتها المرسومة . والسياق يركز في هذه السورة على هذه النقطة ; ويعرض قصة النشأة ، ويتخذها كذلك نقطة تعقيب للإنذار والتذكير ، المستمدين مما في مشاهدها وأحداثها من عظات موحية ، ومؤثرات عميقة :
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين . قال : فاهبط منها ، فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين . قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ، ولا تجد أكثرهم شاكرين . قال : اخرج منها مذءوما مدحورا ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين . . ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فكلا من حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين . . فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ، وقال : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . وقاسمهما : إني لكما لمن الناصحين . فدلاهما بغرور ، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ، وأقل لكما : إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . قال : اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . قال : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون . .
وبهذا المشهد في نقطة الانطلاق يتحدد مصير الرحلة كلها ، ومصائر المرتحلين جميعا . . وتلوح طلائع المعركة الكبرى التي لا تهدأ لحظة طوال الرحلة ، بين هذا العدو الجاهر بالعداوة ، وبني آدم جميعا . كما تلوح نقط الضعف في الكائن الإنساني جملة ، ومنافذ الشيطان إليه منها .
ومن ثم يتخذ السياق من المشهد مناسبة للتعقيب الطويل ، بالإنذار والتحذير . . تحذير بني آدم مما جرى لأبويهم من هذا العدو العنيد . . وفي ظل هذا المشهد الذي يقف فيه الشيطان وجها لوجه مع آدم وزوجه أبوي البشر . وفي ظل النتيجة التي انتهى إليها الشوط الأول في المعركة يتوجه السياق بالخطاب إلى بني آدم ، يذكرهم وينذرهم ، ويحذرهم مصيرا كهذا المصير :
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ، ولباس التقوى ذلك خير ، ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون . . يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . .
يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
ولا بد أن نلحظ أن مشهد العري بعد ارتكاب المحظور ، والخصف من ورق الجنة ; ثم هذا التعقيب بتذكير بني آدم بنعمة الله في إنزال اللباس الذي يواري سوآتهم والرياش الذي يتزينون به ، وتحذيرهم من فتنة الشيطان لهم لينزع عنهم لباسهم وريشهم كما نزعه عن أبويهم . . لا بد أن نلحظ أن ذكر هذه الحلقة من القصة والتعقيب عليها على هذا النحو إنما يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي العربي المشرك حيث كانوا [ ص: 1248 ] تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا ، ويحرمون أنواعا من الثياب ، وأنواعا من الطعام في فترة الحج . ويزعمون أن هذا من شرع الله ، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم . . ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية ، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية . . وفي كل جاهلية في الحقيقة . . أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى؟
وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل . . إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل . ولأنه يواجه - في كل مرة - حالة معينة ، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع ، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها . .
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام - في الجزء السابع - يكون قاعدة هامة . . هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئا لا تستدعيه حالة واقعة . . إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام - ولا حتى القصص - إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها . .
والآن - وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها ، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى ، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى . . الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية ، نهاية المرحلة الكبرى ، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء ، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة .
وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة ، وأكثرها تفصيلا ، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع . . وموقعه في السورة تعقيبا على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه ; وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ; وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلا يقصون عليهم آياته . . موقعه كذلك يجعله مصداقا لما ينبئ به أولئك الرسل . فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها ; وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا : أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون . . فعاد المغتربون إلى دار النعيم ! ! !
والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل .
والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير ، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب ، ويطلبون الخوارق لتصديقه ، من سوء المصير :
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم ، هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل : قد جاءت رسل ربنا بالحق . فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ قد خسروا أنفسهم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .
وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يقف السياق ليعقب عليها ، مقررا " حقيقة الألوهية " و " حقيقة الربوبية " في مشاهد كونية ; تشهد بهذه الحقيقة ; على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالا تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة ، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحس [ ص: 1249 ] المفتوح والبصيرة المستنيرة . وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية : وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده ، فالله هو ربه وحاكمه . فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازا في لحن الوجود المؤمن ; وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر . . وهو رب العالمين . .
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين . ادعوا ربكم تضرعا وخفية . إنه لا يحب المعتدين . ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين . وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت ، فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون . والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون .