وفي ظلال النصر والنجاة يتوجه الخطاب إلى الناجين بالتذكير والتحذير، كي لا ينسوا ولا يبطروا; ولا يتجردوا من السلاح الوحيد الذي كان لهم في المعركة فضمنوا به النصر والنجاح:
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن، ونزلنا عليكم المن والسلوى. كلوا من طيبات ما رزقناكم، ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي، ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى. وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ..
لقد جازوا منطقة الخطر، وانطلقوا ناجين ناحية الطور. وتركوا وراءهم فرعون وجنده غرقى: وإنجاؤهم من عدوهم واقع قريب يذكرونه اللحظة فلم يمض عليه كثير. ولكنه إعلان التسجيل. والتذكير بالنعمة المشهودة ليعرفوها ويشكروها.
ومواعدتهم جانب الطور الأيمن يشار إليها هنا على أنها أمر وقع; وكانت مواعدة لموسى - عليه السلام - بعد خروجهم من مصر ، أن يأتي إلى الطور بعد أربعين ليلة يتهيأ فيها للقاء ربه، ليسمع ما يوحى إليه في الألواح من أمور العقيدة والشريعة، المنظمة لهذا الشعب الذي كتب له دورا يؤديه في الأرض المقدسة بعد الخروج من مصر .
وتنزيل المن. وهو مادة حلوة تتجمع على أوراق الشجر. والسلوى وهو طائر السماني يساق إليهم في الصحراء، قريب المتناول سهل التناول، كان نعمة من الله ومظهرا لعنايته بهم في الصحراء الجرداء. وهو يتولاهم حتى في طعامهم اليومي فييسره لهم من أقرب الموارد.
[ ص: 2346 ] وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها. بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه. ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان، ذاقوا منه ما ذاقوا، ورأوا من نهايته ما رأوا. ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي. ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى .. ولقد هوى فرعون منذ قليل. هوى عن عرشه وهوى في الماء.. والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي. والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة.
هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا; كي لا تبطرهم النعمة، ولا يترفوا فيها فيسترخوا.. وإلى جانب التحذير والإنذار يفتح باب التوبة لمن يخطئ ويرجع:
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ..
والتوبة ليست كلمة تقال، إنما هي عزيمة في القلب، يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح. ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع. فإذا وقعت التوبة وصح الإيمان، وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق، على هدى من الإيمان، وعلى ضمانة من العمل الصالح. فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل..
وإلى هنا ينتهي مشهد النصر والتعقيب عليه. فيسدل الستار حتى يرفع على مشهد المناجاة الثانية إلى جانب الطور الأيمن...
لقد واعد الله موسى - عليه السلام - على الجبل ميعادا ضربه له ليلقاه بعد أربعين يوما; لتلقي التكاليف: تكاليف النصر بعد الهزيمة. وللنصر تكاليفه، وللعقيدة تكاليفها، ولا بد من تهيؤ نفسي واستعداد للتلقي.
وصعد موسى إلى الجبل، وترك قومه في أسفله، وترك عليهم هارون نائبا عنه..
لقد غلب الشوق على موسى إلى مناجاة ربه، والوقوف بين يديه، وقد ذاق حلاوتها من قبل، فهو إليها مشتاق عجول. ووقف في حضرة مولاه. وهو لا يعلم ما وراءه، ولا ما أحدث القوم بعده; حين تركهم في أسفل الجبل.
وهنا ينبئه ربه بما كان خلفه.. فلنشهد المشهد ولنسمع الحوار:
وما أعجلك عن قومك يا موسى ؟ قال: هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى. قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .
وهكذا فوجئ موسى .. إنه عجلان إلى ربه، بعد ما تهيأ واستعد أربعين يوما، ليلقاه ويتلقى منه التوجيه الذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل الجديدة. وقد استخلصهم من الذل والاستعباد، ليصوغ منهم أمة ذات رسالة، وذات تكاليف.
ولكن الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها، والوفاء بالعهد والثبات عليه; وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للانقياد والتقليد المريح.. فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختيار. ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم [ ص: 2347 ] النفسي. وكان أول ابتلاء هو ابتلاؤهم بالعجل الذي صنعه لهم السامري : قال: فإنا قد فتنا قومك من بعدك، وأضلهم السامري ولم يكن لدى موسى علم بهذا الابتلاء، حتى لقي ربه، وتلقى الألواح وفي نسختها هدى، وبها الدستور التشريعي لبناء بني إسرائيل بناء يصلح للمهمة التي هم منتدبون لها.
وينهي السياق موقف المناجاة هنا على عجل ويطويه، ليصور انفعال موسى - عليه السلام - مما علم من أمر الفتنة، ومسارعته بالعودة، وفي نفسه حزن وغضب، على القوم الذين أنقذهم الله على يديه من الاستعباد والذل في ظل الوثنية; ومن عليهم بالرزق الميسر والرعاية الرحيمة في الصحراء; وذكرهم منذ قليل بآلائه، وحذرهم الضلال وعواقبه. ثم ها هم أولاء يتبعون أول ناعق إلى الوثنية، وإلى عبادة العجل!
ولم يذكر هنا ما أخبر الله به موسى من تفصيلات الفتنة، استعجالا في عرض موقف العودة إلى قومه. ولكن السياق يشي بهذه التفصيلات. فلقد عاد موسى غضبان أسفا يوبخ قومه ويؤنب أخاه. فلا بد أنه كان يعلم شناعة الفعلة التي أقدموا عليها:
فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا. قال: يا قوم: ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ أفطال عليكم العهد؟ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا، ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها، فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى فنسي، أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟ ولقد قال لهم هارون من قبل: يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ! .
هذه هي الفتنة يكشف السياق عنها في مواجهة موسى بقومه; وقد أخر كشفها عن موقف المناجاة، واحتفظ بتفصيلاتها لتظهر في مشهد التحقيق الذي يقوم به موسى ..
لقد رجع موسى ليجد قومه عاكفين على عجل من الذهب له خوار يقولون: هذا إلهكم وإله موسى . وقد نسي موسى فذهب يطلب ربه على الجبل وربه هنا حاضر!
فراح موسى يسألهم في حزن وغضب: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ وقد وعدهم الله بالنصر ودخول الأرض المقدسة في ظل التوحيد; ولم يمض على هذا الوعد وإنجاز مقدماته طويل وقت. ويؤنبهم في استنكار: أفطال عليكم العهد؟ أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ فعملكم هذا عمل من يريد أن يحل عليه غضب من الله كأنما يتعمد ذلك تعمدا، ويقصد إليه قصدا! .. أفطال عليكم العهد؟ أم تعمدتم حلول الغضب فأخلفتم موعدي وقد تواعدنا على أن تبقوا على عهدي حتى أعود إليكم، لا تغيرون في عقيدتكم ولا منهجكم بغير أمري؟
عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل، والتخلخل النفسي والسخف العقلي: قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا! ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها .. وقد حملوا معهم أكداسا من حلي المصريات كانت عارية عند نسائهم فحملنها معهن. فهم يشيرون إلى هذه الأحمال. ويقولون: لقد قذفناها تخلصا منها لأنها حرام. فأخذها السامري فصاغ منها عجلا. والسامري رجل من "سامراء" كان يرافقهم أو أنه واحد منهم يحمل هذا اللقب. وجعل له منافذ إذا دارت فيها الريح أخرجت صوتا كصوت الخوار، ولا حياة فيه ولا روح فهو جسد - ولفظ الجسد يطلق على الجسم الذي لا حياة فيه - فما كادوا يرون عجلا من ذهب يخور حتى نسوا ربهم الذي أنقذهم [ ص: 2348 ] من أرض الذل، وعكفوا على عجل الذهب; وفي بلاهة فكر وبلادة روح قالوا: هذا إلهكم وإله موسى راح يبحث عنه على الجبل، وهو هنا معنا. وقد نسي موسى الطريق إلى ربه وضل عنه!
وهي قولة تضيف إلى معنى البلادة والتفاهة اتهامهم لنبيهم الذي أنقذهم تحت عين الله وسمعه، وبتوجيهه وإرشاده. اتهامهم له بأنه غير موصول بربه، حتى ليضل الطريق إليه، فلا هو يهتدي ولا ربه يهديه!
ذلك فضلا على وضوح الخدعة: أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟ والمقصود أنه حتى لم يكن عجلا حيا يسمع قولهم ويستجيب له على عادة العجول البقرية! فهو في درجة أقل من درجة الحيوانية. وهو بطبيعة الحال لا يملك لهم ضرا ولا نفعا في أبسط صورة. فهو لا ينطح ولا يرفس ولا يدير طاحونة ولا ساقية!
وغير ذلك كله لقد نصح لهم هارون ، وهو نبيهم كذلك، والنائب عن نبيهم المنقذ. ونبههم إلى أن هذا ابتلاء. قال: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ونصحهم باتباعه وطاعته كما تواعدوا مع موسى ، وهو عائد إليهم بعد ميعاده مع ربه على الجبل.. ولكنهم بدلا من الاستجابة له التووا وتملصوا من نصحه، ومن عهدهم لنبيهم بطاعته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ..
رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا; فسمع منهم حجتهم التي تكشف عن مدى ما أصاب نفوسهم من تخلخل، وأصاب تفكيرهم من فساد. فالتفت إلى أخيه وهو في فورة الغضب، يأخذ بشعر رأسه وبلحيته في انفعال وثورة:
قال: يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني؟ أفعصيت أمري؟ .
يؤنبه على تركهم يعبدون العجل، دون أن يبطل عبادته، اتباعا لأمر موسى - عليه السلام - بألا يحدث أمرا بعده، ولا يسمح بإحداث أمر. ويستنكر عليه عدم تنفيذه، فهل كان ذلك عصيانا لأمره؟
وقد قرر السياق ما كان من موقف هارون. فهو يطلع أخاه عليه; محاولا أن يهدئ من غضبه، باستجاشة عاطفة الرحم في نفسه:
قال: يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي. إني خشيت أن تقول: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .
وهكذا نجد هارون أهدأ أعصابا وأملك لانفعاله من موسى ، فهو يلمس في مشاعره نقطة حساسة. ويجيء له من ناحية الرحم وهي أشد حساسية، ويعرض له وجهة نظره في صورة الطاعة لأمره حسب تقديره; وأنه خشي إن هو عالج الأمر بالعنف أن يتفرق بنو إسرائيل شيعا، بعضها مع العجل، وبعضها مع نصيحة هارون . وقد أمره بأن يحافظ على بني إسرائيل ولا يحدث فيهم أمرا. فهي كذلك طاعة الأمر من ناحية أخرى..
عندئذ يتجه موسى بغضبه وانفعاله إلى السامري صاحب الفتنة من أساسها. إنما لم يتوجه إليه منذ البدء، لأن القوم هم المسؤولون ألا يتبعوا كل ناعق، وهارون هو المسؤول أن يحول بينهم وبين اتباعه إذا هموا بذلك وهو قائدهم المؤتمن عليهم. فأما السامري فذنبه يجيء متأخرا لأنه لم يفتنهم بالقوة، ولم يضرب على عقولهم، إنما أغواهم فغووا، وكانوا يملكون أن يثبتوا على هدى نبيهم الأول ونصح نبيهم الثاني. فالتبعة عليهم أولا وعلى راعيهم بعد ذلك. ثم على صاحب الفتنة والغواية أخيرا.
اتجه موسى إلى السامري !
[ ص: 2349 ] قال: فما خطبك يا سامري؟ .. أي ما شأنك وما قصتك. وهذه الصيغة تشير إلى جسامة الأمر، وعظم الفعلة.
قال: بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها. وكذلك سولت لي نفسي ..
وتتكاثر الروايات حول قول السامري هذا. فما هو الذي بصر به؟ ومن هو الرسول الذي قبض قبضة من أثره فنبذها؟ وما علاقة هذا بعجل الذهب الذي صنعه؟ وما أثر هذه القبضة فيه؟
والذي يتردد كثيرا في هذه الروايات أنه رأى جبريل - عليه السلام - وهو في صورته التي ينزل بها إلى الأرض فقبض قبضة من تحت قدمه، أو من تحت حافر فرسه، فألقاها على عجل الذهب، فكان له هذا الخوار. أو إنها هي التي أحالت كوم الذهب عجلا له خوار..
والقرآن لا يقرر هنا حقيقة ما حدث، إنما هو يحكي قول السامري مجرد حكاية.. ونحن نميل إلى اعتبار هذا عذرا من السامري وتملصا من تبعة ما حدث. وأنه هو صنع العجل من الذهب الذي قذفه بنو إسرائيل من زينة المصريين التي أخذوها معهم، وأنه صنعه بطريقة تجعل الريح تصوت في فراغه فتحدث صوتا كالخوار. ثم قال حكاية أثر الرسول يبرر بها موقفه، ويرجع الأمر إلى فطنته إلى أثر الرسول!
وعلى أية حال فقد أعلنه موسى - عليه السلام - بالطرد من جماعة بني إسرائيل. مدة حياته. ووكل أمره بعد ذلك إلى الله. وواجهه بعنف في أمر إلهه الذي صنعه بيده. ليرى قومه بالدليل المادي أنه ليس إلها، فهو لا يحمي صانعه، ولا يدفع عن نفسه:
قال: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول: لا مساس. وإن لك موعدا لن تخلفه. وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ..
اذهب مطرودا لا يمسك أحد لا بسوء ولا بخير ولا تمس أحدا - وكانت هذه إحدى العقوبات في ديانة موسى . عقوبة العزل، وإعلان دنس المدنس فلا يقربه أحد ولا يقرب أحدا -
أما الموعد الآخر فهو موعد العقوبة والجزاء عند الله.. وفي حنق وعنف أمر أن يهوى على عجل الذهب، فيحرق وينسف ويلقى في الماء. والعنف إحدى سمات موسى - عليه السلام - وهو هنا غضبة لله ولدين الله، حيث يستحب العنف وتحسن الشدة.
وعلى مشهد الإله المزيف يحرق وينسف، يعلن موسى - عليه السلام - حقيقة العقيدة.
إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو. وسع كل شيء علما .
وينتهي بهذا الإعلان هذا القدر من قصة موسى في هذه السورة. تتجلى فيه رحمة الله ورعايته بحملة دعوته وعباده. حتى عند ما يبتلون فيخطئون. ولا يزيد السياق شيئا من مراحل القصة بعد هذا، لأنه بعد ذلك يقع العذاب على بني إسرائيل بما يرتكبون من آثام وفساد وطغيان. وجو السورة هو جو الرحمة والرعاية بالمختارين. فلا حاجة إلى عرض مشاهد أخرى من القصة في هذا الجو الظليل.