الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث، إنهم كانوا قوم سوء فاسقين. [ ص: 2389 ] وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين

                                                                                                                                                                                                                                      .. وقصة لوط قد سبقت مفصلة. وهو يشير إليها هنا مجرد إشارة. وقد صحب عمه إبراهيم من العراق إلى الشام ، وأقام في قرية سدوم . وكانت تعمل الخبائث. وهي إتيان الفاحشة مع الذكور جهرة وبلا حياء أو تحرج. فأهلك الله القرية وأهلها: إنهم كانوا قوم سوء فاسقين . وأنجى لوطا وأهله إلا امرأته. وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .. وكأنما الرحمة مأوى وملاذ يدخل الله فيه من يشاء، فإذا هو آمن ناعم مرحوم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويشير إلى نوح إشارة سريعة كذلك:

                                                                                                                                                                                                                                      ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له، فنجيناه وأهله من الكرب العظيم. ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي إشارة كذلك لا تفصيل فيها. لإثبات استجابة الله لنوح - عليه السلام - حين ناداه من قبل وهو سابق لإبراهيم ولوط . ولقد أنجاه الله وأهله كذلك. إلا امرأته، وأهلك قومه بالطوفان وهو الكرب العظيم الذي وصفه بالتفصيل في سورة هود.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يفصل بعض الشيء في حلقة من قصة داود وسليمان :

                                                                                                                                                                                                                                      وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان. وكلا آتينا حكما وعلما. وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير. وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له، ويعملون عملا دون ذلك، وكنا لهم حافظين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقصة الحرث التي حكم فيها داود وسليمان يقول الرواة في تفصيلها: إن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث أي حقل وقيل حديقة كرم - والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا قد نفشت في حرثي - أي انطلقت فيه ليلا - فلم تبق منه شيئا. فحكم داود لصاحب الحرث أن يأخذ غنم خصمه في مقابل حرثه.. ومر صاحب الغنم بسليمان ; فأخبره بقضاء داود . فدخل سليمان على أبيه فقال: يا نبي الله إن القضاء غير ما قضيت. فقال: كيف؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بها، وادفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان. ثم يعيد كل منهما إلى صاحبه ما تحت يده. فيأخذ صاحب الحرث حرثه، وصاحب الغنم غنمه.. فقال داود : القضاء ما قضيت. وأمضى حكم سليمان .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان حكم داود وحكم سليمان في القضية اجتهادا منهما. وكان الله حاضرا حكمهما، فألهم سليمان حكما أحكم، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم: وكلا آتينا حكما وعلما .. وليس في قضاء داود من [ ص: 2390 ] خطأ. ولكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعرض السياق ما اختص به كلا منهما. فيبدأ بالوالد:

                                                                                                                                                                                                                                      وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير. وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرف داود - عليه السلام - بمزاميره. وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون، فتتجاوب أصداؤها حوله، وترجع معه الجبال والطير..

                                                                                                                                                                                                                                      وحينما يتصل قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله; وينبض قلب الوجود معه; وتنزاح العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق والفواصل التي تميز الأنواع والأجناس، وتقيم بينها الحدود والحواجز، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون وحقيقته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لحظات الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل، واحتوائها على الكل.. عندئذ لا تحس بأن هنالك ما هو خارج عن ذاتها; ولا بأنها هي متميزة عما حولها. فكل ما حولها مندمج فيها وهي مندمجة فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره، فيسهو عن نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة. وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء. فيحس ترجيعها، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه. وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده. وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل، وينطلق مع أرواح الكائنات، المتجهة كلها إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير .. وكنا فاعلين فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد. يستوي أن يكون مألوفا للناس أو غير مألوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      تلك هي صنعة الدروع حلقا متداخلة، بعد أن كانت تصنع صفيحة واحدة جامدة. والزرد المتداخل أيسر استعمالا وأكثر مرونة، ويبدو أن داود هو الذي ابتدع هذا النوع من الدروع بتعليم الله. والله يمن على الناس أن علم داود هذه الصناعة لوقايتهم في الحرب: لتحصنكم من بأسكم وهو يسألهم سؤال توجيه وتحضيض: فهل أنتم شاكرون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      والحضارة البشرية سارت في طريقها خطوة خطوة وراء الكشوف. ولم تجئ طفرة، لأن خلافة الأرض تركت لهذا الإنسان، ولمداركه التي زوده الله بها ليخطو في كل يوم خطوة; ويعيد تنسيق حياته وفق هذه الخطوة. وإعادة تنسيق الحياة وفق نظام جديد ليست سهلة على النفس البشرية; فهي تهز أعماقها; وتغير عاداتها ومألوفها; وتقتضي فترة من الزمان لإعادة الاستقرار الذي تطمئن فيه إلى العمل والإنتاج. ومن ثم شاءت حكمة الله أن تكون هناك فترة استقرار تطول أو تقصر. بعد كل تنسيق جديد.

                                                                                                                                                                                                                                      والقلق الذي يستولي على أعصاب العالم اليوم منشؤه الأول سرعة توالي الهزات العلمية والاجتماعية التي لا تدع للبشرية فترة استقرار، ولا تدع للنفس فرصة التكيف والتذوق للوضع الجديد.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك شأن داود . فأما شأن سليمان فهو أعظم:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2391 ] ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك. وكنا لهم حافظين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتدور حول سليمان روايات وتصورات وأقاويل، معظمها مستمد من الإسرائيليات والتخيلات والأوهام. ولكن لا نضل في هذا التيه. فإننا نقف عند حدود النصوص القرآنية وليس وراءها أثر مستيقن في قصة سليمان بالذات.

                                                                                                                                                                                                                                      والنص القرآني هنا يقرر تسخير الريح - وهي عاصفة - لسليمان ، تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها. وهي في الغالب الشام لسبق الإشارة إليها بهذه الصفة في قصة إبراهيم .. فكيف كان هذا التسخير؟

                                                                                                                                                                                                                                      هنالك قصة بساط الريح الذي قيل: إن سليمان كان يجلس عليه وهو وحاشيته فيطير بهم إلى الشام في فترة وجيزة. وهي مسافة كانت تقطع في شهر على الجمال. ثم يعود كذلك.. وتستند هذه الرواية إلى ما ورد في سورة "سبأ" من قوله: ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن القرآن لم يذكر شيئا عن بساط الريح ذاك; ولم يرد ذكره كذلك في أي أثر مستيقن. فليس لنا ما نستند عليه لنقرر مسألة البساط.

                                                                                                                                                                                                                                      والأسلم إذن أن نفسر تسخير الريح بتوجيهها - بأمر الله - إلى الأرض المباركة في دورة تستغرق شهرا طردا وعكسا.. كيف؟ لقد قلنا: إن القدرة الإلهية الطليقة لا تسأل كيف؟ فخلق النواميس وتوجيهها هو من اختصاص تلك القدرة الطليقة. والمعلوم للبشر من نواميس الوجود قليل. ولا يمتنع أن تكون هناك نواميس أخرى خفية على البشر تعمل، وتظهر آثارها عند ما يؤذن لها بالظهور: وكنا بكل شيء عالمين .. العلم المطلق لا كعلم البشر المحدود.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك تسخير الجن لسليمان - عليه السلام - ليغوصوا في أعماق البحر أو أعماق اليابسة. ويستخرجوا كنوزها المخبوءة لسليمان ; أو ليعملوا له أعمالا غير هذا وذاك.. فالجن كل ما خفي. وقد قررت النصوص القرآنية أن هناك خلقا يسمون الجن خافين علينا، فمن هؤلاء سخر الله لسليمان من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك. وحفظهم فلا يهربون ولا يفسدون ولا يخرجون على طاعة عبده. وهو القاهر فوق عباده يسخرهم حين يشاء كيف يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا الحد المأمون نقف في ظلال النصوص. فلا نسبح في الإسرائيليات.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد ابتلى الله داود وسليمان - عليهما السلام - بالسراء. وفتنتهما في هذه النعمة. فتن داود في القضاء. وفتن سليمان بالخيل الصافنات - كما سيأتي في سورة ص - فلا نتعرض هنا لتفصيلات الفتنة حتى يأتي ذكرها في موضعها. إنما نخلص إلى نتائجها.. لقد صبر داود ، وصبر سليمان للابتلاء بالنعمة - بعد الاستغفار من الفتنة - واجتازا الامتحان في النهاية بسلام فكانا شاكرين لنعمة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية