وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون. فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون. وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ..
إن أمة الرسل واحدة تقوم على عقيدة واحدة وملة واحدة، أساسها التوحيد الذي تشهد به نواميس الوجود; والذي دعت إليه الرسل منذ أولى الرسالات إلى أخراها دون تبديل ولا تغيير في هذا الأصل الكبير.
إنما كانت التفصيلات والزيادات في مناهج الحياة القائمة على عقيدة التوحيد، بقدر استعداد كل أمة، وتطور كل جيل; وبقدر نمو مدارك البشرية ونمو تجاربها، واستعدادها لأنماط من التكاليف ومن التشريعات; وبقدر حاجاتها الجديدة التي نشأت من التجارب، ومن نمو الحياة ووسائلها وارتباطاتها جيلا بعد جيل.
ومع وحدة أمة الرسل، ووحدة القاعدة التي تقوم عليها الرسالات.. فقد تقطع أتباعها أمرهم بينهم، كأنما اقتطع كل منهم قطعة وذهب بها. وثار بينهم الجدل، وكثر بينهم الخلاف، وهاجت بينهم العداوة والبغضاء.. وقع ذلك بين أتباع الرسول الواحد حتى ليقتل بعضهم بعضا باسم العقيدة. والعقيدة واحدة، وأمة الرسل كلها واحدة.
لقد تقطعوا أمرهم بينهم في الدنيا. ولكنهم جميعا سيرجعون إلى الله، في الآخرة: كل إلينا راجعون فالمرجع إليه وحده. وهو الذي يتولى حسابهم ويعلم ما كانوا عليه من هدى أو ضلال:
فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن، فلا كفران لسعيه، وإنا له كاتبون ..
هذا هو قانون العمل والجزاء.. لا جحود ولا كفران للعمل الصالح متى قام على قاعدة الإيمان.. وهو مكتوب عند الله لا يضيع منه شيء ولا يغيب.
ولا بد من الإيمان لتكون للعمل الصالح قيمته، بل ليثبت للعمل الصالح وجوده. ولا بد من العمل الصالح لتكون للإيمان ثمرته، بل لتثبت للإيمان حقيقته.
إن الإيمان هو قاعدة الحياة، لأنه الصلة الحقيقية بين الإنسان وهذا الوجود، والرابطة التي تشد الوجود بما فيه ومن فيه إلى خالقه الواحد، وترده إلى الناموس الواحد الذي ارتضاه، ولا بد من القاعدة ليقوم البناء. والعمل الصالح هو هذا البناء. فهو منهار من أساسه ما لم يقم على قاعدته.
والعمل الصالح هو ثمرة الإيمان التي تثبت وجوده وحيويته في الضمير. والإسلام بالذات عقيدة متحركة متى تم وجودها في الضمير تحولت إلى عمل صالح هو الصورة الظاهرة للإيمان المضمر.. والثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الأعماق.
ومن ثم يقرن القرآن دائما بين الإيمان والعمل الصالح كلما ذكر العمل والجزاء. فلا جزاء على إيمان عاطل خامد لا يعمل ولا يثمر. ولا على عمل منقطع لا يقوم على الإيمان.
والعمل الطيب الذي لا يصدر عن إيمان إنما هو مصادفة عابرة، لأنه غير مرتبط بمنهج مرسوم. ولا موصول بناموس مطرد. وإن هو إلا شهوة أو نزوة غير موصولة بالباعث الأصيل للعمل الصالح في هذا [ ص: 2398 ] الوجود. وهو الإيمان بإله يرضى عن العمل الصالح، لأنه وسيلة البناء في هذا الكون، ووسيلة الكمال الذي قدره الله لهذه الحياة. فهو حركة ذات غاية مرتبطة بغاية الحياة ومصيرها، لا فلتة عابرة، ولا نزوة عارضة، ولا رمية بغير هدف، ولا اتجاها معزولا عن اتجاه الكون وناموسه الكبير.
والجزاء على العمل يتم في الآخرة حتى ولو قدم منه قسط في الدنيا. فالقرى التي هلكت بعذاب الاستئصال ستعود كذلك حتما لتنال جزاءها الأخير، وعدم عودتها ممتنعة، فهي راجعة بكل تأكيد.
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ..
إنما يفرد السياق هذه القرى بالذكر بعد أن قال: كل إلينا راجعون لأنه قد يخطر للذهن أن هلاكها في الدنيا كان نهاية أمرها، ونهاية حسابها وجزائها. فهو يؤكد رجعتها إلى الله، وينفي عدم الرجعة نفيا قاطعا في صورة التحريم لوقوعه.. وهو تعبير فيه شيء من الغرابة، مما جعل المفسرين يؤولونه فيقدرون أن "لا" زائدة. وأن المعنى هي نفي رجعة القرى إلى الحياة في الدنيا بعد إهلاكها. أو نفي رجوعهم عن غيهم إلى قيام الساعة. وكلاهما تأويل لا داعي له. وتفسير النص على ظاهره أولى، لأن له وجهه في السياق على النحو الذي ذكرنا.
ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة يبدؤه بالعلامة التي تدل على قرب الموعد. وهو فتح يأجوج ومأجوج :
حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا. يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين. إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها، وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون. إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون. يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب، كما بدأنا أول خلق نعيده، وعدا علينا إنا كنا فاعلين ..
وقد قلنا من قبل عند الكلام على يأجوج ومأجوج في قصة ذي القرنين في سورة الكهف: اقتراب الوعد الحق الذي يقرنه السياق بفتح يأجوج ومأجوج ، ربما يكون قد وقع بانسياح التتار وتدفقهم شرقا وغربا، وتحطيم الممالك والعروش.. لأن القرآن قد قال منذ أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - اقتربت الساعة . غير أن اقتراب الوعد الحق لا يحدد زمانا معينا للساعة. فحساب الزمن في تقدير الله غيره في تقدير البشر، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
إنما المقصود هنا هو وصف ذلك اليوم حين يجيء، والتقديم له بصورة مصغرة من مشاهد الأرض، هي تدفق يأجوج ومأجوج من كل حدب في سرعة واضطراب. على طريقة القرآن الكريم في الاستعانة بمشاهدات البشر والترقي بهم من تصوراتهم الأرضية إلى المشاهد الأخروية.
وفي المشهد المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوئين!
فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ..
لا تطرف من الهول الذي فوجئوا به. ويقدم في التعبير كلمة " شاخصة " لترسم المشهد وتبرزه!
ثم يميل السياق عن حكاية حالهم إلى إبرازهم يتكلمون، وبذلك يحيي المشهد ويستحضره:
[ ص: 2399 ] يا ويلنا! قد كنا في غفلة من هذا. بل كنا ظالمين ..
وهو تفجع المفجوء الذي تتكشف له الحقيقة المروعة بغتة; فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف، ويدعو بالويل والهلاك، ويعترف ويندم، ولكن بعد فوات الأوان!
وحين يصدر هذا الاعتراف في ذهول المفاجأة يصدر الحكم القاطع الذي لا مرد له:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ..
وكأنما هم اللحظة في ساحة العرض، يردون جهنم هم وآلهتهم المدعاة; وكأنما هم يقذفون فيها قذفا بلا رفق ولا أناة; وكأنما تحصب بهم حصبا كما تحصب بالنواة! وعندئذ يوجه إليهم البرهان على كذب ما يدعون لها من كونها آلهة. يوجه إليهم البرهان من هذا الواقع المشهود:
لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ..
وهو برهان وجداني ينتزع من هذا المشهد المعروض عليهم في الدنيا، وكأنما هو واقع في الآخرة.. ثم يستمر السياق على أنهم قد وردوا جهنم فعلا، فيصف مقامهم فيها، ويصور حالهم هناك; وهي حال المكروب المذهوب بإدراكه من هول ما هو فيه:
وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير، وهم فيها لا يسمعون .
وندع هؤلاء لنجد المؤمنين في نجوة من هذا كله، قد سبقت لهم الحسنى من الله، وقدر لهم الفوز والنجاة:
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون. لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ..
ولفظة "حسيسها" من الألفاظ المصورة بجرسها لمعناها. فهو تنقل صوت النار وهي تسري وتحرق، وتحدث ذلك الصوت المفزع. وإنه لصوت يتفزع له الجلد ويقشعر. ولذلك نجي الذين سبقت لهم الحسنى من سماعه - فضلا على معاناته - نجوا من الفزع الأكبر الذي يذهل المشركين. وعاشوا فيما تشتهي أنفسهم من أمن ونعيم. وتتولى الملائكة استقبالهم بالترحيب، ومصاحبتهم لتطمئن قلوبهم في جو الفزع المرهوب:
لا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة. هذا يومكم الذي كنتم توعدون ..
ويختم المشهد بمنظر الكون الذي آل إليه. وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب، وبزمام الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب:
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ..
فإذا السماء مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه; وقد قضي الأمر، وانتهى العرض، وطوي الكون الذي كان يألفه الإنسان.. وإذا عالم جديد وكون جديد:
كما بدأنا أول خلق نعيده .. وعدا علينا إنا كنا فاعلين ..
ومن هذا المشهد المصور لنهاية الكون والأحياء في الآخرة يعود السياق لبيان سنة الله في وراثة الأرض، وصيرورتها للصالحين من عباده في الحياة. وبين المشهدين مناسبة وارتباط:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ..
والزبور إما أن يكون كتابا بعينه هو الذي أوتيه داود عليه السلام. ويكون الذكر إذن هو التوراة التي [ ص: 2400 ] سبقت الزبور. وإما أن يكون وصفا لكل كتاب بمعنى قطعة من الكتاب الأصيل الذي هو الذكر وهو اللوح المحفوظ، الذي يمثل المنهج الكلي، والمرجع الكامل، لكل نواميس الله في الوجود.
وعلى أية حال فالمقصود بقوله: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ... هو بيان سنة الله المقررة في وراثة الأرض: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ..
فما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟
لقد استخلف الله آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
ولقد وضع الله للبشر منهجا كاملا متكاملا للعمل على وفقه في هذه الأرض. منهجا يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه; وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته.
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود. ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا.. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق. والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح. فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم.
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ. ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله، وتجري سنته: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .. فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون..