[ ص: 2613 ] كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله وأطيعون (163) وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (164) أتأتون الذكران من العالمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجني وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171) ثم دمرنا الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (173) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175)
تجيء قصة لوط هنا؛ ومكانها التاريخي كان مع قصة إبراهيم، ولكن السياق التاريخي ليس ملحوظا في هذه السورة - كما أسلفنا - إنما الملحوظ وحدة الرسالة والمنهج، وعاقبة التكذيب: من نجاة للمؤمنين وهلاك للمكذبين.
ويبدأ لوط مع قومه بما بدأ به نوح وهود وصالح، يستنكر استهتارهم; ويستجيش في قلوبهم وجدان التقوى، ويدعوهم إلى الإيمان والطاعة، ويطمئنهم إلى أنه لن يفجعهم في شيء من أموالهم مقابل الهدى، ثم يواجههم باستنكار خطيئتهم الشاذة التي عرفوا بها في التاريخ:
أتأتون الذكران من العالمين؟ وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم؟ بل أنتم قوم عادون .
والخطيئة المنكرة التي عرف بها قوم لوط (وقد كانوا يسكنون عدة قرى في وادي الأردن) هي الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور، وترك النساء، وهو انحراف في الفطرة شنيع، فقد برأ الله الذكر والأنثى; وفطر كلا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل، الذي يتم باجتماع لذكر والأنثى؛ فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام، الذي يجعل كل من في الكون وكل ما في الكون في حالة تناسق وتعاون على إنفاذ المشيئة المدبرة لهذا الوجود؛ فأما إتيان الذكور الذكور فلا يرمي إلى هدف، ولا يحقق غاية، ولا يتمشى مع فطرة هذا الكون وقانونه، وعجيب أن يجد فيه أحد لذة، واللذة التي يجدها الذكر والأنثى في التقائهما إن هي إلا وسيلة الفطرة لتحقيق المشيئة؛ فالانحراف عن ناموس الكون واضح في فعل قوم لوط، ومن ثم لم يكن بد أن يرجعوا عن هذا الانحراف أو أن يهلكوا، لخروجهم من ركب الحياة، ومن موكب الفطرة، ولتعريهم من حكمة وجودهم، وهي امتداد الحياة بهم عن طريق التزاوج والتوالد.
فلما دعاهم لوط إلى ترك هذا الشذوذ، واستنكر ما هم فيه من ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، والعدوان على الفطرة وتجاوز الحكمة المكنونة فيها، تبين أنهم غير مستعدين للعودة إلى ركب الحياة، وإلى سنة الفطرة:
قالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين .
وقد كان فيهم غريبا. وفد عليهم مع عمه إبراهيم حين اعتزل أباه وقومه، وترك وطنه وأرضه، وعبر الأردن [ ص: 2614 ] مع إبراهيم والقلة التي آمنت معه. ثم عاش وحده مع هؤلاء القوم حتى أرسله الله إليهم، ليردهم عما هم فيه، فإذا بهم يهددونه بالإخراج من بينهم، إذا لم ينته عن دعوتهم إلى سواء الفطرة القويم!.
عندئذ لم يبق إلا أن يعالنهم بكراهة ما هم عليه من شذوذ; في تقزز واستبشاع :
قال : إني لعملكم من القالين ..
والقلى: الكره البالغ. يقذف به لوط في وجوههم في اشمئزاز؛ ثم يتوجه إلى ربه بالدعاء أن ينجيه من هذا البلاء هو وأهله:
رب نجني وأهلي مما يعملون ..
وهو لا يعمل عملهم ولكنه يحس بفطرته الصادقة أنه عمل مرد مهلك، وهو فيهم، فهو يتوجه إلى ربه أن ينجيه وأهله مما سيأخذ به قومه من التدمير.
واستجاب الله دعوة نبيه:
فنجيناه وأهله أجمعين. إلا عجوزا في الغابرين ..
هذه العجوز هي امرأته - كما يذكر في سور أخرى - وقد كانت عجوز سوء تقر القوم على فعلتهم المنكرة، وتعينهم عليها!
ثم دمرنا الآخرين. وأمطرنا عليهم مطرا، فساء مطر المنذرين ..
قيل خسفت قراهم وغطاها الماء، ومنها قرية سدوم. ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن.
وبعض علماء طبقات الأرض يؤكدون أن البحر الميت يغمر مدنا كانت آهلة بالسكان، وقد كشف بعض رجال الآثار بقايا حصن بجوار البحر، وبجواره المذبح الذي تقدم عليه القرابين.
وعلى أية حال فقد قص القرآن نبأ قرى لوط - على هذا النحو - وقوله الفصل في الموضوع.
ثم يعقب على مصرعهم بالتعقيب المكرور :
إن في ذلك لآية : وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم ..