الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : نحن أولو قوة وأولو بأس شديد. والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا تظهر شخصية "المرأة" من وراء شخصية الملكة؛ المرأة التي تكره الحروب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة :

                                                                                                                                                                                                                                      قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون. وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون !

                                                                                                                                                                                                                                      فهي تعرف أن من طبيعة الملوك أنهم إذا دخلوا قرية (والقرية تطلق على المدينة الكبيرة) أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها، وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها، وعلى رأسها رؤساؤها; وجعلوهم أذلة لأنهم عنصر المقاومة، وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه.

                                                                                                                                                                                                                                      والهدية تلين القلب، وتعلن الود، وقد تفلح في دفع القتال، وهي تجربة، فإن قبلها سليمان فهو إذن أمر الدنيا، ووسائل الدنيا إذن تجدي، وإن لم يقبلها فهو إذن أمر العقيدة، الذي لا يصرفه عنه مال، ولا عرض من أعراض هذه الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      ويسدل الستار على المشهد ليرفع، فإذا مشهد رسل الملكة وهديتهم أمام سليمان، وإذا سليمان ينكر عليهم اتجاههم إلى شرائه بالمال، أو تحويله عن دعوتهم إلى الإسلام، ويعلن في قوة وإصرار تهديده ووعيده الأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما جاء سليمان قال : أتمدونن بمال؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم. بل أنتم بهديتكم تفرحون. ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الرد استهزاء بالمال، واستنكارا للاتجاه إليه في مجال غير مجاله، مجال العقيدة والدعوة: أتمدونن بمال؟ أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟ فما آتاني الله خير مما آتاكم لقد آتاني من المال خيرا مما لديكم، ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق: العلم والنبوة؛ وتسخير الجن والطير، فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني بل أنتم بهديتكم تفرحون . وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض، الذين لا يتصلون بالله، ولا يتلقون هداياه!

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد: ارجع إليهم بالهدية وانتظروا المصير المرهوب: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها جنود لم تسخر للبشر في أي مكان، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال: ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون مدحورون مهزومون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2641 ] ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر، وانتهى الكلام في هذا الشأن.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم إذا سليمان - عليه السلام - يدرك أن هذا الرد سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء - كما يبدو من طريقتها في مقابلة رسالته القوية بهدية! - ويرجح أنها ستجيب دعوته، أو يؤكد وقد كان،

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن السياق لا يذكر كيف عاد رسلها إليها، ولا ماذا قالوا لها، ولا ماذا اعتزمت بعدها، إنما يترك فجوة نعلم مما بعدها أنها قادمة، وأن سليمان يعرف هذا، وأنه يتذاكر مع جنوده في استحضار عرشها، الذي خلفته في بلادها محروسا مصونا:

                                                                                                                                                                                                                                      قال : يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن : أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك. وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ..

                                                                                                                                                                                                                                      ترى ما الذي قصد إليه سليمان - عليه السلام - من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها؟ نرجح أن هذه كانت وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده، لتؤثر في قلب الملكة وتقودها إلى الإيمان بالله، والإذعان لدعوته.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرض عفريت من الجن أن يأتيه به قبل انقضاء جلسته هذه؛ وكان يجلس للحكم والقضاء من الصبح إلى الظهر فيما يروى؛ فاستطول سليمان هذه الفترة واستبطأها - فيما يبدو - فإذا الذي عنده علم من الكتاب يعرض أن يأتي به في غمضة عين قبل أن يرتد إليه طرفه، ولا يذكر اسمه، ولا الكتاب الذي عنده علم منه، إنما نفهم أنه رجل مؤمن على اتصال بالله، موهوب سرا من الله يستمد به من القوة الكبرى التي لا تقف لها الحواجز والأبعاد، وهو أمر يشاهد أحيانا على أيدي بعض المتصلين، ولم يكشف سره ولا تعليله، لأنه خارج عن مألوف البشر في حياتهم العادية، وهذا أقصى ما يقال في الدائرة المأمونة التي لا تخرج إلى عالم الأساطير والخرافات!

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جرى بعض المفسرين وراء قوله: عنده علم من الكتاب فقال بعضهم: إنه التوراة. وقال بعضهم:

                                                                                                                                                                                                                                      إنه كان يعرف اسم الله الأعظم، وقال بعضهم غير هذا وذاك، وليس فيما قيل تفسير ولا تعليل مستيقن، والأمر أيسر من هذا كله حين ننظر إليه بمنظار الواقع، فكم في هذا الكون من أسرار لا نعلمها، وكم فيه من قوى لا نستخدمها، وكم في النفس البشرية من أسرار كذلك وقوى لا نهتدي إليها، فحيثما أراد الله هدي من يريد إلى أحد هذه الأسرار وإلى واحدة من هذه القوى فجاءت الخارقة التي لا تقع في مألوف الحياة، وجرت بإذن الله وتدبيره وتسخيره، حيث لا يملك من لم يرد الله أن يجريها على يديه أن يجريها.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي عنده علم من الكتاب، كانت نفسه مهيأة بسبب ما عنده من العلم، أن تتصل ببعض الأسرار والقوى الكونية التي تتم بها تلك الخارقة التي تمت على يده، لأن ما عنده من علم الكتب وصل قلبه بربه على نحو يهيئه للتلقي، ولاستخدام ما وهبه الله من قوى وأسرار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر بعض المفسرين أنه هو سليمان نفسه - عليه السلام - ونحن نرجح أنه غيره؛ فلو كان هو لأظهره السياق باسمه، ولما أخفاه؛ والقصة عنه، ولا داعي لإخفاء اسمه فيها عند هذا الموقف الباهر، وبعضهم قال: إن اسمه آصف ابن برخيا ولا دليل عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية