ويرسم بهذا الإعلان مسرح القصة قبل أن يبدأ في عرضها. والقلوب معلقة بأحداثها ومجرياتها، وما ستنتهي إليه، وكيف تصل إلى تلك النهاية التي أعلنها قبل البدء في عرضها.
ومن ثم تنبض القصة بالحياة; وكأنها تعرض لأول مرة، على أنها رواية معروضة الفصول، لا حكاية غبرت في التاريخ. هذه ميزة طريقة الأداء القرآنية بوجه عام.
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار:
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة; ولد والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه..
وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه; عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.
هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف:
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني .. [ ص: 2679 ] يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه فألقيه في اليم !!
ولا تخافي ولا تحزني إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردا وسلاما، وتجعل البحر ملجأ ومناما. اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.
إنا رادوه إليك .. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. وجاعلوه من المرسلين .. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى ، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني:
فالتقطه آل فرعون ..
أهذا هو الأمن؟أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟
وهل كانت المسكينة تخشى عليه إلا من آل فرعون؟ وهل كانت ترجف إلا أن ينكشف أمره لآل فرعون؟ وهل كانت تخاف إلا أن يقع في أيدي آل فرعون؟
نعم! ولكنها القدرة تتحدى. تتحدى بطريقة سافرة مكشوفة. تتحدى فرعون وهامان وجنودهما. إنهم ليتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفا على ملكهم وعرشهم وذواتهم. ويبثون العيون والأرصاد على قوم موسى كي لا يفلت منهم طفل ذكر.. فها هي ذي يد القدرة تلقي في أيديهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر. وأي طفل؟ إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين! ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردا من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزا عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد! ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه وهو الطاغية السفاح المتجبر، ولا تتعبه في البحث عنه في بيوت بني إسرائيل، وفي أحضان نسائهم الوالدات!
ثم ها هي ذي تعلن عن مقصدها سافرة متحدية:
ليكون لهم عدوا وحزنا .
ليكون لهم عدوا يتحداهم وحزنا يدخل الهم على قلوبهم:
إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ..
ولكن كيف؟ كيف وها هو ذا بين أيديهم، مجردا من كل قوة، مجردا من كل حيلة؟ لندع السياق يجيب:
وقالت امرأت فرعون: قرت عين لي ولك، لا تقتلوه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ..
لقد اقتحمت به يد القدرة على فرعون قلب امرأته، بعدما اقتحمت به عليه حصنه. لقد حمته بالمحبة. ذلك الستار الرقيق الشفيف. لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال. حمته بالحب الحاني في قلب امرأة. وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره.. وهان فرعون على الله أن يحمي منه الطفل الضعيف بغير هذا الستار الشفيف!
قرت عين لي ولك ..
وهو الذي تدفع به يد القدرة إليهم ليكون لهم - فيما عدا المرأة - عدوا وحزنا! لا تقتلوه ..
[ ص: 2680 ] وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده!
عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ..
وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا!
وهم لا يشعرون ..
فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!
وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.
ذلك شأن موسى . فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟