وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه، ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون، ليكفروا بما آتيناهم، فتمتعوا فسوف تعلمون. أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون؟ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون. أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؟ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ..
إنها صورة للنفس البشرية التي لا تستمد من قيمة ثابتة، ولا تسير على نهج واضح. صورة لها وهي تتأرجح بين الانفعالات الطارئة، والتصورات العارضة، والاندفاعات مع الأحداث والتيارات. فعند مس الضر يذكر الناس ربهم، ويلجأون إلى القوة التي لا عاصم إلا إياها، ولا نجاة إلا بالإنابة إليها. حتى إذا انكشفت الغمة، وانفرجت الشدة، وأذاقهم الله رحمة منه: إذا فريق منهم بربهم يشركون .. وهو الفريق الذي لا يستند إلى عقيدة صحيحة تهديه إلى نهج مستقيم؛ ذلك أن الرخاء يرفع عنهم الاضطرار الذي ألجأهم إلى الله، وينسيهم الشدة التي ردتهم إليه. فيقودهم هذا إلى الكفر بما آتاهم الله من الهدى وما آتاهم من الرحمة، بدلا من الشكر والاستقامة على الإنابة.
وهنا يعاجل هذا الفريق بالتهديد في أشخاص المشركين الذين كانوا يواجهون الرسالة المحمدية، فيوجه إليهم الخطاب، ويحدد أنهم من هذا الفريق الذي يعنيه:
فتمتعوا فسوف تعلمون ..
وهو تهديد ملفوف، هائل مخيف. وإن الإنسان ليخاف من تهديد حاكم أو رئيس، فكيف وهذا التهديد من فاطر هذا الكون الهائل، الذي أنشأه كله بقولة: كن! فتمتعوا فسوف تعلمون !
وبعد هذه المعاجلة بالتهديد الرعيب يعد فيسأل في استنكار عن سندهم في هذا الشرك الذي يجازون به [ ص: 2771 ] نعمة الله ورحمته; وهذا الكفر الذي ينتهون إليه:
أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون؟ ..
فإنه لا ينبغي لبشر أن يتلقى شيئا في أمر عقيدته إلا من الله. فهل أنزلنا عليهم حجة ذات قوة وسلطان تشهد بهذا الشرك الذي يتخذونه؟ وهو سؤال استنكاري تهكمي، يكشف عن تهافت عقيدة الشرك، التي لا تستند إلى حجة ولا تقوم على دليل. ثم هو سؤال تقريري من جانب آخر، يقرر أنه لا عقيدة إلا ما يتنزل من عند الله. وما يأتي بسلطان من عنده. وإلا فهو واهن ضعيف.
ثم يعرض صفحة أخرى من صفحات النفس البشرية في الفرح بالرحمة فرح الخفة والاغترار، والقنوط من الشدة، واليأس من رحمة الله:
وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ..
وهي كذلك صورة للنفس التي لا ترتبط بخط ثابت تقيس إليه أمرها في جميع الأحوال، وميزان دقيق لا يضطرب مع التقلبات. والناس هنا مقصود بهم أولئك الذين لا يرتبطون بذلك الخط ولا يزنون بهذا الميزان. فهم يفرحون بالرحمة فرح البطر الذي ينسيهم مصدرها وحكمتها؛ فيطيرون بها، ويستغرقون فيها، ولا يشكرون المنعم، ولا يستيقظون إلى ما في النعمة من امتحان وابتلاء. حتى إذا شاءت إرادة الله أن تأخذهم بعملهم فتذيقهم حالة " سيئة " عموا كذلك عن حكمة الله في الابتلاء بالشدة، وفقدوا كل رجاء في أن يكشف الله عنهم الغمة وقنطوا من رحمته ويئسوا من فرجه.. وذلك شأن القلوب المنقطعة عن الله، التي لا تدرك سننه ولا تعرف حكمته. أولئك الذين لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا!
ويعقب على هذه الصورة بسؤال استنكاري يعجب فيه من أمرهم، وقصر نظرهم وعمى بصيرتهم. فالأمر في السراء والضراء يتبع قانونا ثابتا، ويرجع إلى مشيئة الله سبحانه، فهو الذي ينعم بالرحمة، ويبتلي بالشدة; ويبسط الرزق ويضيقه وفق سنته، وبمقتضى حكمته. وهذا ما يقع كل آن، ولكنهم هم لا يبصرون:
أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؟ ..
فلا داعي للفرح والبطر عند البسط، ولا لليأس والقنوط عند القبض; فإنما هي أحوال تتعاور الناس وفق حكمة الله، وفيها للقلب المؤمن دلالة على أن مرد الأمر كله لله، ودلالة على اطراد السنة، وثبات النظام، رغم تقلب الأحوال:
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ..
وإذا كان الله هو الذي يبسط الرزق ويقبضه، وهو الذي يعطي ويمنع وفق مشيئته، فهو يبين للناس الطريق الذي تربو أموالهم فيه وتربح. لا كما يظنون هم، بل كما يهديهم الله:
فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون. وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ..
وما دام المال مال الله، أعطاه رزقا لبعض عباده، فالله صاحب المال الأول قد قرر قسما منه لفئات من عباده، يؤديها إليهم من يضع يده على ذلك المال. ومن ثم سماها حقا. ويذكر هنا من هذه الفئات " ذا القربى [ ص: 2772 ] والمساكين وابن السبيل " . ولم تكن الزكاة بعد قد حددت ولا مستحقوها قد حصروا. ولكن المبدأ كان قد تقرر. مبدأ أن المال مال الله، بما أنه هو الرازق به، وأن لفئات من المحتاجين حقا فيه مقررا لهم من صاحب المال الحقيقي، يصل إليهم عن طريق واضع اليد على هذا المال.. وهذا هو أساس النظرية الإسلامية في المال. وإلى هذا الأساس ترجع جميع التفريعات في النظرية الاقتصادية للإسلام. فما دام المال مال الله، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول، سواء في طريقة تملكه أو في طريقة تنميته، أو في طريقة إنفاقه. وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء.
وهو هنا يوجه أصحاب المال الذين اختارهم ليكونوا أمناء عليه إلى خير الطرق للتنمية والفلاح. وهي إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، والإنفاق بصفة عامة في سبيل الله: ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون ..
وكان بعضهم يحاول تنمية ماله بإهداء هدايا إلى الموسرين من الناس، كي ترد عليه الهدية مضاعفة! فبين لهم أن هذا ليس الطريق للنماء الحقيقي: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله .. هذا ما تذكره الروايات عن المقصود بالآية وإن كان نصها بإطلاقه يشمل جميع الوسائل التي يريد بها أصحابها أن ينموا أموالهم بطريقة ربوية في أي شكل من الأشكال .. وبين لهم في الوقت ذاته وسيلة النماء الحقيقية:
وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ..
هذه هي الوسيلة المضمونة لمضاعفة المال: إعطاؤه بلا مقابل وبلا انتظار رد ولا عوض من الناس. إنما هي إرادة وجه الله. أليس هو الذي يبسط الرزق ويقدر؟ أليس هو الذي يعطي الناس ويمنع؟ فهو الذي يضاعف إذن للمنفقين ابتغاء وجهه، وهو الذي ينقص مال المرابين الذين يبتغون وجوه الناس.. ذلك حساب الدنيا، وهناك حساب الآخرة وفيه أضعاف مضاعفة. فهي التجارة الرابحة هنا وهناك!
ومن زاوية الرزق والكسب يعالج قضية الشرك، وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم، ويعرض نهاية المشركين من قبل، وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم:
الله الذي خلقكم، ثم رزقكم، ثم يميتكم ثم يحييكم. هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء؟ سبحانه وتعالى عما يشركون. ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. قل: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين ..
وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجده، أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها. يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم، وأنه هو الذي رزقهم، وأنه هو يميتهم، وأنه هو يحييهم. فأما الخلق فهم يقرون به. وأما الرزق فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا. وأما الإماتة فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها. بقي الإحياء وكانوا يمارون في وقوعه. وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة، التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف الذي أصابهم. وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة.
ثم يسألهم: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء؟ ولا ينتظر جوابا منهم، فهو سؤال للنفي في [ ص: 2773 ] صورة التقريع غير محتاج إلى جواب! إنما يعقب عليه بتنزيه الله: سبحانه وتعالى عما يشركون .