والآن نأخذ في التفصيل..
ص. والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرن، فنادوا ولات حين مناص ..
هذا الحرف.. " صاد " يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر. وهذا الحرف من صنعة الله تعالى. فهو موجده. موجده صوتا في حناجر البشر; وموجده حرفا من حروف الهجاء الت يتألف من جنسها التعبير القرآني. وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله. وهو متضمن صنعة الله [ ص: 3007 ] التي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن. وهذا الصوت.. " صاد " .. الذي تخرجه حنجرة الإنسان، إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات. وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الحنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم. فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات!
ص. والقرآن ذي الذكر ..
والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب.. ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول. وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن. بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر.
فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن. وقد يكون معنى ذي الذكر. أي المذكور المشهور. وهو وصف أصيل للقرآن:
بل الذين كفروا في عزة وشقاق ..
وهذا الإضراب في التعبير يلفت النظر. فهو يبدو كأنه انقطاع عن الموضوع الأول. موضوع القسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. هذا القسم الذي لم يتم في ظاهر التعبير. لأن المقسم عليه لم يذكر واكتفى بالمقسم به ثم أخذ يتحدث بعده عن المشركين. وما هم فيه من استكبار ومن مشاقة. ولكن هذا الانقطاع عن القضية الأولى هو انقطاع ظاهري، يزيد الاهتمام بالقضية التي تليه. لقد أقسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. فدل على أنه أمر عظيم، يستحق أن يقسم به الله سبحانه. ثم عرض إلى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقتهم في هذا القرآن. فهي قضية واحدة قبل حرف الإضراب بل وبعده. ولكن هذا الالتفات في الأسلوب يوجه النظر بشدة إلى المفارقة بين تعظيم الله - سبحانه - لهذا القرآن، واستكبار المشركين عنه ومشاقتهم فيه. وهو أمر عظيم!
وعقب على الاستكبار والمشاقة، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم، ممن كذبوا مثلهم، واستكبروا استكبارهم، وشاقوا مشاقتهم. ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف. ولكن بعد فوات الأوان:
كم أهلكنا من قبلهم من قرن، فنادوا، ولات حين مناص !
فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم; وأن يرجعوا عن شقاقهم. وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون. ينادون ويستغيثون. وفي الوقت أمامهم فسحة، قبل أن ينادوا ويستغيثوا، ولات حين مناص. ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص!
يطرق قلوبهم تلك الطرقة، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق.. ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق:
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب! وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم. إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق ..
هذه هي العزة: أأنزل عليه الذكر من بيننا .. وذلك هو الشقاق: أجعل الآلهة إلها واحدا..؟ ..
[ ص: 3008 ] ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة..! .. هذا ساحر كذاب .. إن هذا إلا اختلاق .. إلخ. إلخ..
وقصة العجب من أن يكون الرسول بشرا قصة قديمة، مكرورة معادة، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات. وتكرر إرسال الرسل من البشر وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض:
وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ..
وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم. بشرا يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون; ويحس ما يعتلج في نفوسهم، وما يشتجر في كيانهم وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات..
بشرا يعيش بين البشر - وهو منهم - فتكون حياته قدوة لهم; وتكون لهم فيه أسوة. وهم يحسون أنه واحد منهم، وأن بينهم وبينه شبها وصلة. فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه، ويدعوهم لاتباعه. وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته..
بشرا منهم. من جيلهم. ومن لسانهم. يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم. ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإياه. ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه. أو اختلاف لغته. أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته.
ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائما موضع العجب، ومحط الاستنكار، وموضوع التكذيب! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار; كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة. وبدلا من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله. كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة! كانوا يريدونها مثلا خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس! وعندئذ يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة!
ولكن الله أراد للبشرية - وبخاصة في الرسالة الأخيرة - أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية. عيشة طيبة ونظيفة وعالية، ولكنها حقيقة في هذه الأرض. لا وهما ولا خيالا ولا مثلا طائرا في سماء الأساطير والأحلام! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام!
وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب ..
قالوا كذلك استبعادا لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم. وقالوه كذلك تنفيرا للعامة من محمد - صلى الله عليه وسلم - وتهويشا على الحق الواضح في حديثه، والصدق المعروف عن شخصه.
والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرفونه حق المعرفة: إنه ساحر وإنه كذاب! إنما كان هذا سلاحا من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء; ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة; ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء!
ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد - صلى الله عليه وسلم - والحق الذي جاء به، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة . ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج، عن الدين الجديد وصاحبه - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 3009 ] قال : إن ابن إسحاق الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش - وكان ذا سن فيهم - وقد حضر الموسم. فقال لهم: يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه لجنا. وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره..
فذلك كان شأن الملإ من قريش في قولهم: ساحر كذاب. وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون. ويعرفون أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - بساحر ولا كذاب!