الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل (62) له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن [ ص: 3060 ] عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66) وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67) ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74) وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)
هذا القطاع الأخير في السورة، يعرض حقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء، المالك المتصرف في كل شيء. فتبدو دعوة المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه! تبدو هذه الدعوة مستغربة، والله هو خالق كل شيء، وهو المتصرف في ملكوت السماوات والأرض بلا شريك. فأنى يعبد معه غيره، وله وحده مقاليد السماوات والأرض؟!
وما قدروا الله حق قدره وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه .. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهدا فريدا من مشاهد القيامة، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وينطق الوجود كله بحمده: وقيل الحمد لله رب العالمين .. فتكون هذه هي كلمة الفصل في حقيقة التوحيد.
[ ص: 3061 ] الله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل. له مقاليد السماوات والأرض. والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ..
إنها الحقيقة التي ينطق بها كل شيء. فما يملك أحد أن يدعي أنه خلق شيئا. وما يملك عقل أن يزعم أن هذا الوجود وجد من غير مبدع. وكل ما فيه ينطق بالقصد والتدبير; وليس أمر من أموره متروكا لقى أو للمصادفة من الصغير إلى الكبير: وهو على كل شيء وكيل .. وإلى الله قياد السماوات والأرض. فهو يصرفها وفق ما يريد; وهي تسير وفق نظامه الذي قدرهوما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها، على ما تشهد الفطرة، وينطق الواقع، ويقر العقل والضمير.
والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون ..
خسروا لإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله; وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين. وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم. فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ الخاسرون !
وعلى ضوء هذه الحقيقة التي تنطق بها السماوات والأرض، ويشهد بها كل شيء في الوجود، يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استنكار ما يعرضونه عليه من مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يعبدوا معه إلهه. كأن الأمر أمر صفقة يساوم عليها في السوق!
قل: أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون؟ ..
وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطبق المطموس.
ويعقب عليه بتحذير من الشرك. يبدأ أول ما يبدأ بالأنبياء والمرسلين. وهم - صلوات الله عليهم - لا يتطرق إلى قلوبهم طائف الشرك أبدا. ولكن التحذير هنا ينبه سواهم من أقوامهم إلى تفرد ذات الله سبحانه في مقام العبادة، وتوحد البشر في مقام العبودية، بما فيهم الأنبياء والمرسلون:
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك: لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين ..
ويختم هذا التحذير من الشرك بالأمر بالتوحيد. توحيد العبادة والشكر على الهدى واليقين، وعلى آلاء الله التي تغمر عباده، ويعجزون عن إحصائها، وهم فيها مغمورون:
بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ..
وما قدروا الله حق قدره ..
نعم. ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به بعض خلقه. وهم لا يعبدونه حق عبادته. وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته. وهم لا يستشعرون جلاله وقوته.
ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته. على طريقة التصوير القرآنية، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية، يتصورها إدراكهم المحدود:
والأرض جميعا قبضته يوم القيامة. والسماوات مطويات بيمينه. سبحانه وتعالى عما يشركون ..
[ ص: 3062 ] وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها. ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بشكل، ولا تتحيز في حيز، ولا تتحدد بحدود .
ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى، وينتهي بانتهاء الموقف، وسوق أهل النار إلى النار. وأهل الجنة إلى الجنة. وتفرد الله ذي الجلال. وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد.
وهو مشهد رائع حافل، يبدأ متحركا، ثم يسير وئيدا، حتى تهدأ كل حركة، وتسكن كل نأمة، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت، ورهبة الخشوع، بين يدي الله الواحد القهار!
ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقيا على ظهر الأرض من الأحياء، ومن في السماوات كذلك - إلا من شاء الله - ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية:
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله. ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ..
ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا. صيحة الحشر والتجميع. ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام. لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء، ويتحرك في سكون.
وأشرقت الأرض بنور ربها ..
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض. ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام..
ووضع الكتاب .. الحافظ لأعمال العباد..
وجيء بالنبيين والشهداء .. ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون.. وطوي كل خصام وجدال - في هذا المشهد - تنسيقا لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام:
وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون. ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ..
فلا حاجة إلى كلمة تقال، ولا إلى صوت واحد يرتفع. ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى. لأن المقام هنا مقام روعة وجلال.
وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ..
واستقبلهم خزنتها يسجلون استحقاقهم لها ويذكرونهم بأسباب مجيئهم إليها:
وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟
قالوا: بلى. ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ..
فالموقف موقف إذعان وتسليم. لا موقف مخاصمة ولا مجادلة. وهم مقرون مستسلمون!
قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها. فبئس مثوى المتكبرين !
ذلك ركب جهنم ركب المتكبرين. فكيف ركب الجنة؟ ركب المتقين؟
[ ص: 3063 ] وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا. حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها. وقال لهم خزنتها: سلام عليكم. طبتم. فادخلوها خالدين ..
فهو الاستقبال الطيب. والثناء المستحب. وبيان السبب. طبتم وتطهرتم. كنتم طيبين. وجئتم طيبين. فما يكون فيها إلا الطيب. وما يدخلها إلا الطيبون. وهو الخلود في ذلك النعيم..
هنا تهينم أصوات أهل الجنة بالتسبيح والتحميد:
وقالوا: الحمد لله. الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض، نتبوأ من الجنة حيث نشاء . فهذه هي الأرض لتي تستحق أن تورث. وهم يسكنون فيها حيث شاءوا، وينالون منها الذي يريدون.
فنعم أجر العاملين ..
ثم يختم المشهد بما يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال، وما يتسق مع جو المشهد كله وظله، وما يختم سورة التوحيد أنسب ختام; والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد; في خشوع واستسلام. وكلمة الحمد ينطق بها كل حي وكل موجود في استسلام:
وترى الملائكة حافين من حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين ..