باب ما يجب لولي قتيل العمد
قال الله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وقال تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وقال تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقد اتفقوا أن القود مراد به . وقال تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فاقتضت هذه الآيات إيجاب القصاص لا غير .
وقد اختلف الفقهاء في ، فقال موجب القتل العمد وأصحابه أبو حنيفة ومالك بن أنس والثوري وابن شبرمة : " ليس للولي إلا القصاص ، ولا يأخذ الدية إلا برضى القاتل " . وقال والحسن بن صالح الأوزاعي والليث : الولي بالخيار بين أخذ القصاص والدية ، وإن لم يرض القاتل " . وقال والشافعي : " فإن عفا المفلس عن القصاص جاز ، ولم يكن لأهل الوصاية والدين منعه ؛ لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إذا كان حيا أو بمشيئة الورثة إذا كان ميتا " . الشافعي
قال : ما تقدم ذكره من ظواهر آي القرآن بما تضمنه من بيان المراد من غير اشتراك في اللفظ يوجب القصاص دون المال ، وغير جائز إيجاب المال على وجه التخيير إلا بمثل ما يجوز به نسخه ؛ لأن الزيادة في نص القرآن توجب نسخه . أبو بكر
ويدل عليه أيضا قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فحظر أخذ مال كل واحد من أهل الإسلام إلا برضاه على وجه التجارة . وبمثله قد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : فمتى لم يرض القاتل بإعطاء المال ، ولم تطب به نفسه فماله محظور على كل أحد . لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه
وروي عن وقد ذكرنا سنده فيما تقدم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس . العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول
وروى سليمان بن كثير قال : حدثنا عن عمرو بن دينار عن طاوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين أن الواجب بالعمد هو القود ، ولو كان له خيار في أخذ الدية لما اقتصر على ذكر القود دونها ؛ لأنه [ ص: 186 ] غير جائز أن يكون له أحد شيئين على وجه التخيير ، ويقتصر صلى الله عليه وسلم بالبيان على أحدهما دون الآخر ؛ لأن ذلك يوجب نفي التخيير ، ومتى ثبت فيه تخيير بعده كان نسخا له . من قتل في عميا أو في زحمة لم يعرف قاتله أو رميا تكون بينهم بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل خطأ ، ومن قتل عمدا فقود يديه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
فإن قيل : قد روى هذا الحديث الآخر عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار موقوفا عليه ، ولم يذكر فيه طاوس ، ولا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : كان ابن عباس حدث به مرة هكذا غير مرفوع ، وحدث به مرة أخرى كما حدث ابن عيينة سليمان بن كثير ، وقد كان سيئ الحفظ كثير الخطأ ، ومع ذلك فجائز أن يكون ابن عيينة رواه مرة عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ومرة أفتى به ، وأخبر عن اعتقاده ، فليس إذا في ذلك ما يوهن الحديث . ابن عباس
وقد تنازع أهل العلم معنى قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فقال قائلون : العفو ما سهل وما تيسر ، قال الله تعالى : خذ العفو يعني والله أعلم : ما سهل من الأخلاق .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : يعني تيسير الله وتسهيله على عباده ، فقوله تعالى : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فمن عفي له من أخيه شيء يعني الولي إذا أعطي شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان ، فندبه الله تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل ، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة ، كما قال عقيب ذكر القصاص من سورة المائدة : فمن تصدق به فهو كفارة له فندبه إلى العفو والصدقة ، وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني ؛ لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالإتباع ، وأمر الجاني بالأداء بالإحسان ، وقال بعضهم : المعنى فيه ما روي عن ، وهو ما حدثنا ابن عباس قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان الثوري قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : سمعت مجاهدا يقول : كان القصاص في ابن عباس بني إسرائيل ، ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى إلى قوله فمن عفي له من أخيه شيء قال : العفو أن يقبل الدية في العمد ابن عباس فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فيما كان كتب على من كان قبلكم فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم قال : بعد قبول الدية فأخبر أن الآية نزلت ناسخة لما كان على ابن عباس بني إسرائيل من حظر قبول الدية ، وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل تخفيفا من الله علينا ورحمة بنا فلو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال " فالعفو أن يقبل الدية " لأن [ ص: 187 ] القبول لا يطلق إلا فيما بذله غيره .
ولو لم يكن أراد ذلك لقال : إذا اختار الولي . فثبت بذلك أن المعنى كان عند جواز تراضيهما على أخذ الدية . وقد روي عن ما يدل على أن الحكم الذي كان في قتادة بني إسرائيل من امتناع قبول الدية ثابت على من قتل بعد أخذ الدية ، وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال : حدثنا قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله تعالى : قتادة فمن اعتدى بعد ذلك قال : " يقول من قتل بعد أخذ الدية فعليه القتل لا يقبل منه الدية " .
وقد روي فيه معنى آخر ، وهو ما روى عن سفيان بن حسين ابن أشوع عن قال : كان بين حيين من العرب قتال فقتل من هؤلاء ومن هؤلاء ، فقال أحد الحيين : لا نرضى حتى نقتل الرجل بالمرأة ، وبالرجل الرجلين ، وارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القتل بواء " أي سواء فاصطلحوا على الديات ، ففضل لأحد الحيين على الآخر ، فهو قوله تعالى : الشعبي كتب عليكم القصاص إلى قوله : فمن عفي له من أخيه شيء قال : سفيان فمن عفي له من أخيه شيء يعني : فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف .
فأخبر عن السبب في نزول الآية ، وذكر الشعبي أن معنى العفو هاهنا الفضل وهو معنى يحتمله اللفظ ، قال الله تعالى : سفيان حتى عفوا يعني كثروا ، وقال صلى الله عليه وسلم : فتقدير الآية على ذلك : فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحق بالمعروف ، وليؤد إليه بإحسان وقد ذكر فيه معنى آخر ، وهو أنهم قالوا : هو في الدم بين جماعة إذا عفا بعضهم تحول نصيب الآخرين مالا . وقد روي عن أعفوا اللحى عمر وعلي وعبد الله ذلك ، ولم يذكروا أنه تأويل الآية . وهذا تأويل لفظ الآية يوافقه ؛ لأنه قال : فمن عفي له من أخيه شيء وهذا يقتضي وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه ، فيتحول نصيب الشركاء مالا ، وعليهم إتباع القاتل بالمعروف ، وعليه أداؤه إليهم بإحسان . وتأوله بعضهم على أن لولي الدم أخذ المال بغير رضى القاتل . وهذا تأويل يدفعه ظاهر الآية ؛ لأن العفو لا يكون مع أخذ الدية ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأثبت له أحد الشيئين : قتل أو عفو ، ولم يثبت له مالا بحال ؟ العمد قود إلا أن يعفو الأولياء
فإن قال قائل : إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا ويتناوله لفظ الآية .
قيل له : إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضا أن يكون عافيا بترك المال وأخذ القود ، فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل أو أخذ مال ، وهذا فاسد [ ص: 188 ] لا يطلقه أحد . ومن جهة أخرى ينفيه ظاهر الآية ، وهو أنه إذا كان الولي هو العافي بترك القود وأخذ المال فإنه لا يقال له : " عفا له " وإنما يقال له : " عفا عنه " فيتعسف فيقيم " اللام " مقام " عن " أو يحمله على أنه " عفا عن الدم " فيضمر حرفا غير مذكور ، ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف لم يجز لنا إثبات الحذف .
وعلى أن تأويلنا هو سائغ مستعمل على ظاهره من غير إثبات ضمير فيه ، وهو أن يحمل على معنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال ، ومن جهة أخرى يخالف ظاهرها ، وهو أن قوله : من أخيه شيء فقوله : " من " تقتضي التبعيض ؛ لأن ذلك حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غيره ، فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه ، وعند المخالف هو عفو عن جميع الدم ، وتركه إلى الدية ، وفيه إسقاط حكم من ومن وجه آخر وهو قوله شيء
وهذا أيضا يوجب العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه ، فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه ؛ لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال : فمن عفي له عن الدم وطولب بالدية ، فأسقط حكم قوله من وقوله شيء وغير جائز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته ، ومتى استعمل على ما ذكرنا كان موافقا لظاهر الآية من غير إسقاط منه ؛ لأنه إن كان التأويل ما ذكره من نزولها على السبب ، وما فضل من بعضهم على بعض من الديات ، فهو موافق للفظ الآية ؛ لأنه عفي له من أخيه بمعنى أنه فضل له شيء من المال فيه التقاضي ، وذلك بعض من جملة وشيء منها ، فتناول اللفظ على حقيقته . الشعبي
وإن كان التأويل أنه إن سهل له بإعطاء شيء من المال فالولي مندوب إلى قبوله موعود بالثواب عليه ، فذلك قد يتناول أيضا للبعض بأن يبذل بعض الدية ، وذلك جزء من كل مما أتلفه . وإن كان التأويل الإخبار بنسخ ما كان على بني إسرائيل من إيجاب حكم القود ، ومع أخذ البدل ، فتأويلنا أيضا على هذا الوجه أشد ملاءمة لمعنى الآية لأنا نقول : إن الآية اقتضت جواز الصلح منهما على ما يقع الاصطلاح عليه من قليل أو كثير ، فذكر البعض ، وأفاد به حكم الكل أيضا كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما نص عليه هذا القول بعينه ، وأراد به ما فوقه ، في نظائر لذلك في القرآن .
وإن كان التأويل عفو بعض الأولياء عن نصيبه ، فهو أيضا يواطئ ظاهر الآية لوقوع العفو عن البعض دون الجميع . فعلى أي وجه يصرف تأويل المتأولين ممن قدمنا قوله فتأويله موافق لظاهر الآية غير تأويل من تأوله على أن للوالي العفو عن [ ص: 189 ] الجميع ، وأخذ المال .
وليس يمتنع أن يكون جميع المعاني التي قدمنا ذكرها عن متأوليها مرادة بالآية ، فيكون نزولها على سبب نسخ بها ما كان على بني إسرائيل ، وأبيح لنا بها أخذ قليل المال وكثيره ، ويكون الولي مندوبا إلى القبول إذا تسهل له القاتل بإعطاء المال ، وموعودا عليه بالثواب ، ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات ، فأمروا به بالاتباع بالمعروف ، وأمر القاتل بالأداء إليهم بإحسان ، ويكون على اختلاف فيه بيان حكم الدم إذا عفا عنه بعض الأولياء .
فهذه الوجوه كلها على اختلاف معانيها تحتملها الآية ، وهي مرادة من غير إسقاط شيء من لفظها .
فإن قال قائل : وما تأوله المخالفون في إيجاب الدية للولي باختياره من غير رضى القاتل تحتمله الآية ، فوجب أن يكون مرادا ؛ إذ ليس فيه نفي لتأويلات الآخرين ، ويكون قوله : فمن عفي له معناه أنه ترك له ، من قولهم : " عفت المنازل " : إذا تركت حتى درست ، والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها ، فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية . قيل له : إن كان كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية ، وأخذ القود أن يكون عافيا ؛ لأنه تارك لأخذ الدية ، وقد يسمى ترك المال وإسقاطه عفوا ، قال الله : فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال . ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على من آثر أخذ القود وترك أخذ الدية ، فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي ؛ إذ كان إنما اختار أحد شيئين كان مخيرا في اختيار أيهما شاء ؛ لأن من كان مخيرا بين أحد شيئين فاختار أحدهما كان الذي اختاره هو حق الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره ، ألا ترى أن كان العتق هو كفارته كأنه لم يكن غيره ، وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه ؟ من اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين
كذلك هذا الولي لو كان مخيرا في أحد شيئين من قود أو مال ثم اختار أحدهما لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر . فلما كان اسم العفو منتفيا عمن ذكرنا لم يجز تأويل الآية عليه وكانت المعاني التي قدمنا ذكرها أولى بتأويلها .
ثم ليس يخلو الواجب للولي بنفس القتل أن يكون القود والدية جميعا أو القود دون الدية أو أحدهما على وجه التخيير لا جائز أن يكون حق الأمرين جميعا بالاتفاق ، ولا يجوز أيضا أن يكون الواجب أحدهما على حسب ما يختاره الولي كما في كفارة اليمين ونحوها ، لما بينا من أن الذي أوجبه الله تعالى في الكتاب [ ص: 190 ] هو القصاص ، وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص ، ونفي لإيجاب القصاص ، ومثله عندنا يوجب النسخ ، فإذا الواجب هو القود لا غيره ، فلا جائز له أخذ المال إلا برضى القاتل ؛ لأن كل من له قبل غيره حق يمكن استيفاؤه منه لم يجز له نقله إلى بدل غيره إلا برضى من عليه الحق .
وعلى أن قائل هذا القول مخطئ في العبارة حين قال : " الواجب هو القود ، وله أن يأخذ المال " ؛ لأنه لم يخرجه من أن يكون مخيرا فيه ؛ إذ قد جعل له أن يستوفي القود إن شاء ، وإن شاء المال ، فلو قال قائل : " الواجب هو المال ، وله نقله إلى القود بدلا منه " كان مساويا له ، فلما فسد قول هذا القائل من أن الواجب هو المال ، وله نقله إلى القود لإيجابه التخيير .
كذلك قول من قال " الواجب هو القود ، وله نقله إلى المال " ؛ إذ لم ينفك في الحالين من إيجاب التخيير بنفس القتل ، والله سبحانه إنما كتب على القاتل القصاص بقوله : كتب عليكم القصاص في القتلى ولم يقل : كتب عليكم المال في القتلى ، ولا : كتب عليكم القصاص أو المال في القتلى . والقائل بأن الواجب هو القود ، وله نقله إلى المال إنما عبر عن التخيير الذي أوجبه له بغير اسمه ، وأخطأ في العبارة عنه .
فإن قال قائل : هذا كما تقول : إن الواجب هو القصاص ، ولهما جميعا نقله إلى المال بتراضيهما ، ولم يكن في جواز تراضيهما على نقله إلى المال إسقاط لموجب حكم الآية من القصاص .
قيل له : من قبل أنا قد بينا بديا أن القصاص حق للولي على القاتل من غير إثبات تخيير له بين القود وغيره ، وتراضيهما على نقله إلى البدل لا يخرجه من أن يكون هو الحق الواجب دون غيره ؛ لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر في الأصل الذي كان واجبا من غير خيار ، ألا ترى أن الرجل قد يملك العبد والدار ، ولغيره أن يشتريه منه برضاه ، وليس في جواز ذلك نفي لملك الأصل لمالكه الأول ، ولا موجبا ؛ لأن يكون ملكه موقوفا على الخيار ؟ وكذلك . الرجل يملك طلاق امرأته ، ويملك الخلع ، وأخذ البدل عن الطلاق
وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له بديا ، على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضا المرأة ، وأنه لو كان له أن يطلق أو يأخذ المال بديا من غير رضاها لكان ذلك موجبا لكونه مالكا لأحد شيئين من طلاق أو مال ، ويدل على أن الواجب بالقتل هو القود لا غير حديث الذي قدمنا إسناده في قصة أنس الربيع حين كسرت ثنية جارية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأخبر أن موجب الكتاب هو القصاص ، فغير جائز لأحد إثبات شيء معه ، ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما يجوز [ ص: 191 ] به نسخ الكتاب . كتاب الله القصاص
ولو سلمنا احتمال الآية لما ادعوه من تأويلها في جواز أخذ المال من غير رضى القاتل في قوله : فمن عفي له من أخيه شيء مع احتماله للوجوه التي ذكرنا ، كان أكبر أحواله أن يكون اللفظ مشتركا محتملا للمعاني ، فيوجب ذلك أن يكون متشابها ، ومعلوم أن قوله تعالى : كتب عليكم القصاص محكم ظاهر المعنى بين المراد لا اشتراك في لفظه ، ولا احتمال في تأويله .
وحكم المتشابه أن يحمل على معنى المحكم ، ويرد إليه بقوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله : وابتغاء تأويله فأمر الله تعالى برد المتشابه إلى المحكم ؛ لأن وصفه للمحكم بأنه أم الكتاب يقتضي أن يكون غيره محمولا عليه ، ومعناه معطوفا عليه ؛ إذ كان أم الشيء ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه .
ثم ذم من اتبع المتشابه ، واكتفى بما احتمله اللفظ من تأويله من غير رد له إلى المحكم ، وحمله على موافقته في معناه ، وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم بقوله : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وإذا ثبت أن قوله : كتب عليكم القصاص محكم .
وقوله : فمن عفي له من أخيه شيء متشابه وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشيء من حكمه ، وهو أن يكون على أحد الوجوه التي ذكرنا مما لا ينفي موجب لفظ الآية من القصاص ، من غير معنى آخر يضم إليه ، ولا عدول عنه إلى غيره . وكذلك قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم إذ كانت النفس مثلا فيما يستحقه الولي وهو القود ، فإذا كان المثل هو القود ، وإتلاف نفسه كما أتلف كان بمنزلة متلف المال الذي له مثل ، ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي لقوله تعالى : بمثل ما اعتدى عليكم وبدلالة الأصول عليه .
واحتج من أوجب بأخبار منها : حديث للولي الخيار بين القود ، وأخذ المال من غير رضا القاتل يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح أبي هريرة مكة : ، وحديث من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل ، وإما أن يودي عن يحيى بن سعيد أبي ذئب قال : حدثني قال : سمعت سعيد المقبري أبا شريح الكعبي يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة : خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل ، وإني عاقله ، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين : بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا ورواه ألا إنكم معشر ، عن محمد بن إسحاق الحارث بن فضيل ، عن ، عن سفيان أبي العرجاء ، عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله [ ص: 192 ] صلى الله عليه وسلم : . من أصيب بدم أو بخبل يعني الجراح فوليه بالخيار بين إحدى ثلاث : بين العفو أو يقتص أو يأخذ الدية
وهذه الأخبار غير موجبة لما ذكروا ؛ لاحتمالها أن يكون المراد أخذ الدية برضى القاتل كما قال تعالى : فإما منا بعد وإما فداء والمعنى فداء برضى الأسير . فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم المخاطبين عند ذكر المال بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه . كذلك قوله : . أو يأخذ الدية
وقوله : وكما يقول القائل لمن له دين على غيره : إن شئت فخذ دينك دراهم ، وإن شئت دنانير . وكما أو يودي حين أتاه بتمر : أكل تمر لبلال خيبر هكذا ؟ فقال : لا ، ولكنا نأخذ الصاع منه بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا تفعلوا ، ولكن بع تمرك بعرض ثم خذ بالعرض هذا ، ومعلوم أنه لم يرد أن يأخذ التمر بالعرض بغير رضى الآخر ، ويكون ذكره الدية إبانة عما نسخه الله عما كان على قال صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل من امتناع أخذ الدية برضى القاتل ، وبغير رضاه تخفيفا عن هذه الأمة على ما روي عن " أن القصاص كان في ابن عباس بني إسرائيل ، ولم يكن فيهم أخذ الدية فخفف الله عن هذه الأمة " .
ويدل على ما وصفنا من أن المراد أخذ الدية برضى القاتل أن قد روى حديث الأوزاعي ، عن أبي هريرة ، عن يحيى بن أبي كثير أبي سلمة ، عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه : . من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل ، وإما أن يفادي
والمفاداة إنما تكون بين اثنين كالمقاتلة ، والمضاربة ، والمشاتمة ، ونحو ذلك ، فدل على أن مراده في سائر الأخبار أخذ الدية برضى القاتل . وهذه الأخبار تبطل قول من يقول : " إن الواجب على القاتل هو القود ، وللولي نقله إلى الدية " ؛ لأن في جميعها إثبات التخيير للولي بنفس القتل بين القود وأخذ الدية ، ولو كان الواجب هو القود لا غير ، وإنما للولي نقله إلى الدية بعد ثبوته كما ينقل الدين إلى العرض ، والعرض إلى الدين على وجه العوض عنه ، وليس هناك خيار موجب بنفس القتل بل الواجب شيء واحد ، وهو القود ، والقائل بإيجاب القود بالقتل دون غيره إلا أن ينقله الولي إلى الدية ، مخالف لهذه الآثار . وقد روى الأنصاري عن حميد الطويل عن في قصة أنس بن مالك الربيع ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ، وذلك ينافي كون المراد بالكتاب المال أو القصاص . كتاب الله القصاص
وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه ، ، وثابت البناني عن : أنس . فاحتج أن رجلا قتل رجلا ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ولي المقتول ثم قال : أتعفو ؟ قال : لا . قال : أفتأخذ الدية ؟ قال : لا قال : أما إنك إن قتلته كنت مثله فمضى الرجل فلحقه الناس فقالوا : إن رسول الله [ ص: 193 ] صلى الله عليه وسلم قال : أما إنك إن قتلته كنت مثله فعفا عنه بهذا الحديث . الموجبون للخيار بين القود والمال
وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا ؛ وذلك لأنه يحتمل أن يأخذ الدية برضى القاتل كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة حين جاءت تشكوه : ثابت بن قيس . ومعلوم أن رضا أتردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم ثابت قد كان مشروطا فيه ، وإن لم يكن مذكورا في الخبر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلزم ثابتا الطلاق ، ولا يملكه الحديقة إلا برضاه .
وجائز أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد إلى أن يعقد عقدا على مال فيكون موقوفا على رضا القاتل أو فسخه ، وجائز أن يكون أراد أن يؤدي الدية من عنده كما فعل في قتيل الخزاعي بمكة ، وكما تحمل عن اليهود دية عبد الله بن سهل الذي وجد قتيلا بخيبر .
وقوله صلى الله عليه وسلم : يحتمل معنيين : إن قتلته كنت مثله
أحدهما : أنك قاتل كما أنه قاتل ، لا أنك مثله في المأثم ؛ لأنه استوفى حقا له فلا يستحق اللوم عليه ، والأول فعل ما لم يكن له فكان آثما ، فعلمنا أنه لم يرد " كنت مثله في المأثم " . والآخر : أنك إذا قتلته فقد استوفيت حقك منه ، ولا فضل لك عليه ، وقد ندب الله تعالى إلى الإفضال بالعفو بقوله تعالى : فمن تصدق به فهو كفارة له
فإن قال قائل : لما كان عليه إحياء نفسه وجب أن يحكم عليه بذلك إذا اختار الولي أخذ المال . قيل له : ، مثل أن يرى إنسانا قد قصد غيره بالقتل أو خاف عليه الغرق ، وهو يمكنه تخليصه ، أو كان معه طعام ، وخاف عليه أن يموت من الجوع ، فعليه إحياؤه بإطعامه ، وإن كثرت قيمته . وعلى كل أحد أن يحيي غيره إذا خاف عليه التلف
وإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه فعلى الولي أيضا إحياؤه إذا أمكنه ذلك ، فوجب على هذه القضية إجبار الولي على أخذ المال إذا بذله القاتل ، وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلا ؛ لأنه إذا كان على كل واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال ، وإسقاط القود . وأيضا فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة أن يعطيه ؛ لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير .
فلما لم يلزمه عند القائلين بهذه المقالة كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده . واحتج إعطاء أكثر من الدية المزني في هذه المسألة بأنه لو للشافعي لبطل الحد والكفالة ، ولم يستحق شيئا ، ولو صالح من حد القذف على مال أو من كفالة بنفس باتفاق الجميع قبل ذلك ، فدل ذلك على أن دم العمد مال في الأصل لولا ذلك لما صح الصلح كما لم يصح عن حد القذف والكفالة . صالح من دم عمد على مال
قال : قد انتظم هذا الاحتجاج الخطأ والمناقضة ، [ ص: 194 ] فأما الخطأ فهو أن من أصلنا أن أبو بكر الحد لا يبطل بالصلح ويبطل المال ، وأما المناقضة فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الطلاق، ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال ، وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالا عن طلاق بغير رضاها . ، والكفالة بالنفس فيها روايتان : إحداهما : لا تبطل أيضا ، والأخرى : أنها تبطل
وعلى أن قد قال فيما حكاه الشافعي المزني عنه " إن جائز ، وليس لأصحاب الوصايا والدين منعه من ذلك ؛ لأن المال لا يملك في العمد إلا باختيار المجني عليه ، فلو كان الدم مالا في الأصل لثبت فيه حق الغرماء وأصحاب الوصايا " وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير ، وأنه لم يوجب له خيارا بين القتل وبين الدية . عفو المحجور عليه عن الدم
فإن قال قائل : قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال ؛ إذ كان اسم السلطان يقع عليهما ، والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلما تجب فيه الدية ، نحو قتيل شبه العمد ، والأب إذا قتل ابنه ، وبعضهم يجب فيه القود ، وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادا بالآية ؛ لاحتمال اللفظ لهما .
وقد تأوله على ذلك ، فقال في معنى قوله الضحاك بن مزاحم فقد جعلنا لوليه سلطانا " إنه إن شاء قتل ، وإن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية " فلما احتمل السلطان ما وصفنا وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود لوقوع الاسم عليهما ولأنه قد ثبت باتفاق الجميع أن كل واحد منهما مرادا لله تعالى في حال ، وحينئذ يكون تقدير الآية : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في القود والدية .
ولما حصل الاتفاق على أنهما لا يجبان مجتمعين وجب أن يكون وجوبهما على وجه التخيير ، وكما احتججتم في إيجاب القود بقوله فقد جعلنا لوليه سلطانا لاتفاق الجميع على أن القود مراد ، وصار كالمنصوص عليه فيه ، وجعلتموه كعموم لفظ القود ، فيلزمكم مثله في إثبات المال لوجودنا مقتولين ظلما يكون سلطان الولي هو المال قيل له : حمله على القود أولى من حمله على الدية ؛ وذلك لأنه لما كان السلطان لفظا مشتركا محتملا للمعاني كان متشابها يجب رده إلى المحكم ، وحمله على معناه ، وهي آية محكمة في إيجاب القصاص ، وهو قوله : كتب عليكم القصاص في القتلى فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية أن يكون معطوفا على ما في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص .
وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد ، فيكون معنى المتشابه محمولا عليه ، فلذلك وجب الاقتصار [ ص: 195 ] بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره لموافقته لمعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه ، ومن حمله على تخييره في أخذ الدية أو القود فلم يلجأ إلى أصل له من المحكم يحمله عليه ، فلذلك لم يصح إثبات التخيير مع احتمال اللفظ له . وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه ؛ لأنه قال : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا يعني ، والله أعلم : بأن يقتل غير قاتله أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق من القتل . السرف في القصاص
وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله : سلطانا القود . وأيضا لما ثبت أن القود مراد بالآية انتفت إرادة المال ؛ لأنه لو كان مرادا مع القود لكان الواجب هما جميعا في حالة واحدة لا على وجه التخيير ؛ إذ ليس في الآية ذكر التخيير ، فلما امتنع إرادتهما جميعا ، وكان القود لا محالة مرادا علمنا أنه لم يرد المال ، وأن إيجابنا للدية في بعض المقتولين ظلما ليس عن هذه الآية ، والله تعالى أعلم .